فلسطين أون لاين

"الهروب" من داخل "أكياس الأسمنت" الإسرائيلية

...
الهروب من أكياس الأسمنت
الناقد الفني/ سعيد أبو معلا

لطالما تأخر التوثيق الفلسطيني الفني والتلفزيوني لمسألة تجارب الهروب البطولي من سجون الاحتلال، غير أن هروب الأسرى من "نفق جلبوع" قبل أكثر من عام بكل ما حملته هذه التجربة من استعادة لقوة الفعل الفلسطيني وتسليط الضوء على مبادرة الأسرى في الخروج من أكثر السجون تحصينًا لخلق أفق في حرية الأسرى، ولو لساعات أو أيام، أعاد الاهتمام وتسليط الضوء إلى هذا الملف القديم الجديد، إذ حرّض الحدثُ المدهشُ مخرجين فلسطينيين على العودة للوراء قليلًا ونبش تاريخ هروب الفلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي.

وفي فيلم "الهروب" للمخرج محمد الصواف، المنتج حديثًا، الذي بُثّ بنسخته التلفزيونية (52 دقيقة) على قناة "الجزيرة الوثائقية" قبل يومين، تجربة مهمة عن أبرز الإنتاجات الفنية التي تعبر عن تلك الاستعادة المهمة والمطلوبة.

يقدم الفيلم روايةً وسردًا بصريًا حيًّا توثيقيًّا ودراميًّا، لقصص حقيقية تعد ضربًا من المستحيل لنماذج من حالات كسر الأسرى الفلسطينيين لمنظومة السجون الإسرائيلية، أملًا في المطلب الأكثر حيوية في حياة الإنسان الأسير وهو الحرية. 

حاول المخرج طوال 75 دقيقة (نسخة العرض في المهرجانات) بناء خيط درامي ناظم يجمع القصص الست لتعبر عن تجارب هروب الأسرى من السجون الأكثر تحصينًا وتأمينًا، فالسجن عند الاحتلال الإسرائيلي هو "حالة أمنية كاملة" بحسب أحد الأسرى، يقوم الاحتلال بكل إجراءاته الأمنية من أجل نفي أي فكرة للهرب وجعلها فكرة غير قابلة للتخيل أو التصديق.

وبأسلوب جمع بين الوثائقي والدرامي (مع غلبة واضحة ومهمة في التمثيل)، يعرض الفيلم بطريقة تحبس الأنفاس خمسة محاور، تناول في الأول واقع السجون وظروفها الأمنية ومعنى السجن ودلالاته بالنسبة للسجناء والسجانين، ثم يعرض حالة التفكير بالهروب والكيفية التي تتحقق فيها فكرة رفض التسليم بواقع السجن، ومن ثم يتناول ثالثًا التخطيط لعملية الهروب، ورابعًا تنفيذ العملية، وأخيرًا النتيجة ومحاولة وضع التجارب الفلسطينية في سياق وطني ونضالي يحسب لرصيد الحركة الأسيرة الفلسطينية. 

يطرح الفيلم السؤال على ألسنة الأسرى المحررين الهاربين وهم من الضفة وغزة، ماذا يعني السجن؟ ومن ثم يتعمق السؤال ليعرض من وحي التجارب طبيعة إجراءات الاحتلال التي تتطور طوال الوقت لمنع فكرة الهروب ليس كممارسة نضالية وفعل حقيقي إنما كفكرة في عقل السجين، فكل ممارسات الاحتلال داخل السجن تهدف لجعل مجرد التفكير في الهرب مسألةً غير واقعيةٍ ولا يمكن تنفيذها، وهو ما يجعل الأسرى يسردون واقع السجون وإجراءات الاحتلال التي تعمل على تأبيد فكرة السجن "ونفي فكرة الحياة خارجها" ضمن بيئة تعج بالكاميرات والمراقبة والحراسات والأسلاك الشائكة والكلاب المدربة وسياسة العد والعقوبات والفحص الدوري...الخ من إجراءات السيطرة والتحكم.

غوص في العمق

يفرد الفيلم مساحةً من السرد المتداخل لقصص الأسرى الستة الذين تختلف تجارب ووسائل هروبهم إضافة إلى الظروف الجغرافية المختلفة لحوادث هروبهم، بداية التفكير والتخطيط، في حين يفرد مساحة مستقلة لعملية التنفيذ عند ساعة الصفر، كما يضع تجارب الهروب ضمن سياق تاريخي تشكل حالة من الوعي الشامل عن تجربة مهمة من تاريخ نضال الحركة الفلسطينية الأسيرة.

وعبر دقائق الفيلم يعرض المخرج الذي يتقن الغوص في تجارب الأسرى واستعادة تفاصيل الهروب والتنقل بين استدعاء الأسرى لماضي تجاربهم وهي تجارب بعيدة نسبياً، وكذلك في إدارة طاقم كبير من الممثلين الشباب الذين قدموا مشاهد تمثيلية غاية في الإتقان عملت على أن يحبس المشاهد أنفاسه طوال دقائق الفيلم الموترة والمليئة بالأمنيات والدعاء أيضًا.

يمكن القول بثقة أن هذا الفيلم الوثائقي هو الوحيد (في حدود علمنا) الذي تصدى لحالات الفرار من سجون الاحتلال، في ظل وجود مجموعة لا بأس بها من الأفلام الروائية التي تتناول قضايا الأسرى، روى فيه الأسرى للمشاهدين تجربتهم ومحركهم للهرب ونتائج ممارساتهم للحرية مستعينًا بـ"الديكودراما"، من أجل تعميق التأثير ونقل أكثر اللحظات دقةً: من تخطيط، وحفر، وتنفيذ… إلخ، وهو أمر يضاف إلى رصيد الفيلم ويضعنا على حجم المسؤولية التي وقعت على صناعه أيضًا.

ومن أجل الوصول إلى أعمق نقطة في استعادة التجربة عمل المخرج وفريق العمل على وضع الأسرى، ما أمكن، في بيئة تصويرية تحاكي السجون الإسرائيلية لتحفز ذاكرة ومشاعر الأسرى المحررين واستدعاء أدق لحظات الهروب.

صراع الإرادة

وبعيدًا عما أفرد له الفيلم من تفاصيل عمليات الهروب، وعلى أهمية ذلك، فإنه أبدع عندما وضع كل هذه الممارسات البطولية للحرية في نهاية العمل التوثيقي ضمن سياق الصراع مع الاحتلال، إذ أكدت التجارب على أنها جميعًا استوجبت من إدارات السجون تقديرًا للأسرى الذين حاولوا الهرب، لكونهم نفذوا أعمالًا "جنونية" من وجهة نظر الاحتلال.

ويظهر الصراع في تشديد أبطال الفيلم على أن تجاربهم صبّت في رصيد صراع الإرادة والتحدي بين الحركة الأسيرة والسجان، والتأكيد أنها محاولات تعكس تطوير الأسرى لأنفسهم وامتلاكهم القدرة على تطويع الأدوات والتغلب على إجراءات السجن كلها، وهم يؤكدون كذلك أن محاولات الهرب وإن كانت لن تتوقف إلا أنها أصبحت أكثر صعوبة مع تطور منظومة التحكم والسيطرة.

يختم المخرج فيلمه بالحديث عن واقع الأسرى وأمانيهم في الهرب من أجل ملاقاة أمهاتهم، فمصدر الخوف بالنسبة للأسير ليس السجن إنما فقدان أغلى ما يملك في الحياة (أمه)، وكانت الجملة الأكثر قسوة التي يرددها الأسرى من ذوات الأحكام العالية لأمهاتهم: "أوعك تموتي قبل ما أروح" (يطلق سراحي)، وتكتمل القسوة والوجع ويصبح المستقبل أكثر قتامةً عند أصحاب الأحكام العالية عندما يفقدون أمهاتهم من دون أن ينالوا حضنًا دافئًا.

بمقولة للشاعر الفلسطيني محمود درويش يسدل الستار على العرض الوثائقي والتي يقول فيها: "في السجن لا تقل انتهى كل شيء... في السجن نقول ابتدأ كل شيء، والبداية هي الحرية"، إنها جملة بمقدار ما تعكس الواقع فإنها تحرض على صنعه، وفيلم "الهروب" محاولة فلسطينية مهمة في رصد هذا الواقع ووضعه في سياق النضال الفلسطيني نحو الحرية.