في مقولة شهيرة للكاتب المعروف غسان كنفاني أن الإنسان قضية، ولا أتصوّر هنا في هذا المقام من استطاع أن يُجسّد هذه المقولة، مثل من سأكتب عنهم في هذه السلسلة ممّن قبضوا على جمر السجون الصهيونيّة قرابة الربع قرن، دون أن يهنوا أو يضعفوا، بل ضاعفوا رصيدهم من العمل والإبداع وبناء الذات وتطويرها (الذات الفردية والجمعية)، ونجحوا في تجسيد اشتباك نوعي في الإبداع مع سجّان نوعيّ في الإجرام، وكيل صنوف العذاب، وبذل كل الجهد لإفناء الروح الحرّة فيهم.
رجل حفلت سيرته بكلّ أشكال النضال كمًّا ونوعًا، بدأ حياته مصاباً برصاص الاحتلال، ومرّت بالاعتقالات المتكرّرة والمتوّج آخرها بالمؤبدات، وسارت إلى أن يشكّل نهضة معرفيّة رغم أنف سجّانه، كان بإمكانه أن يسند ربابته على تاريخه المشرّف والعظيم، وأن يكتفي بأن يكون من الصابرين على مبتلاهم في سجون يحكمها جنس بشريّ فاشيّ حاقد متوحّش، ولكنه أبى إلا أن يتابع ويتميّز بأرقى درجات التميّز.
عبد الناصر عيسى لم تردعه الإصابات التي جعلت حياته رهينة رصاصة حاقدة، وهو في بداية شبابه، أصيب سنة 1982 ثم عاد الكرّة ليصاب مرّة ثانية سنة 1988، الرصاصة التي لا تقتله تزيده قوّة وصلابة وإصرارًا على متابعة طريق ذات الشوكة، فألم الرصاص لا يفتّ عضده، ولا يضعف عزائمه، بقي عنفوانه يناطح السحاب، وبقي الفتى الذي يشتدّ عوده ويصنع على عين الله، فيرتقي بشخصيته عبر الألم وطريق التضحيات.
عبد الناصر عيسى لاحقه الاحتلال باعتقالات لها أوّل، ولم يعد لها آخر لحدّ الآن، والتي نرجو أن تحطّ رحالها في موعد قريب مع الحريّة بإذن الله، كان اعتقاله الأوّل سنة 1985، حيث يسلخ الاحتلال جلود معتقليه في سجن الفارعة، الذي جعله الاحتلال معقلًا للتعذيب الوحشيّ والتنكيل الذي يصدّ الشباب الفلسطيني عن سبيل الله وطريق الجهاد والمقاومة، واعتقل المرّة الثانية أيضًا في ذات المسلخ عام 1986، الذي التقت فيه ماكينة العذاب مع من يصنعون الحياة ويزرعون في الروح قيم الجهاد، كان اللقاء مع المفكّر جمال منصور ليبطل سحرهم وينفخ في روح عبد الناصر قيم النصر والتحرير وذروة سنام الإسلام، ثم كان الاعتقال الثالث سنة 1988 الذي اتهمه الاحتلال بإعداد عبوة ناسفة، واستخدام قنابل المولوتوف في مقاومته المستمرّة للمحتلّ، واستمرّ هذا الاعتقال أربع سنوات، وكان على أثره أن أمعن الاحتلال في إجرامه بعقوبة جماعية هدموا فيها بيت العائلة، ثم كان الاعتقال الرابع والخامس.
عبد الناصر عيسى وضعه الاحتلال نصب عينيه الحاقدتين، فكان له أيضًا نصيب من المطاردة الساخنة لتتجلّى في حياته كلّ أشكال غيظ الاحتلال، ذاق فيها برد الجبل، وافتراش مغارة، والتحاف
سقفها، بين رعد السماء ونار الاحتلال، تمكّنوا من اعتقاله مرّتين باسم مزوّر غير اسمه الحقيقي، وهذه إن دلّت فإنما يدلّ على قدراته الأمنية الذكيّة والعالية.
ثم مع رفع الاحتلال لسقف جرائمه مع الإنسان الفلسطيني، رفع عبد الناصر سقف اشتباكه، ليدخل ميدانًا جهاديًّا ثوريًّا تتجلّى فيه كلّ أنواع الأسلحة التي لم تكن متاحة بسهولة، لم تكن في تلك الفترة حدود للردّ على جرائمه، فكانت العمليات الاستشهادية البطوليّة، فانخرط في هذا المجال إلى أن كان الاعتقال الأخير الذي حمّلوه من المؤبدات ما يكفي لحمله عدة رجال.
وكانت رحلة السجن الجديدة لتبدأ نهضة معرفية في عالم ليله طويل وشديد السواد، فتصنع إشراقتها الخاصة مبدّدة لهذا الليل، وكان لهذه الشخصية الفذّة أن تدرك سياسة السجان، فتُفشل هذه السياسة وتعمل كلّ جهدها بالاتجاه المعاكس، تُخسّره أكثر مما تخسر، بل تجعل من السجن معاقل للأحرار، ومعاهد أكاديمية، وقل إن شئت كليّات عسكريّة تجيد تخريج الذات الثورية بامتياز، ولم يهمل د. عبد الناصر ذاته ليكون شمعة تحترق لتضيء على غيرها، بل كانت المصباح الذي يضيء على نفسه وعلى غيره.
أنهى على صعيد ذاته البكالوريوس من الجامعة العبرية حيث أتقن لغتهم وأدرك سرّهم، كانت هذه المرحلة قاسية وفي مواجهة دائمة مع إدارة السجن، إذ كلّما أرادت أن تعاقبه على أفعاله المبطلة لسياستها عاقبته بمنعه من إكمال دراسته، واستمرّت دراسته الجامعية سبع سنوات، أتبعها بالماجستير، وكان مُعيدًا جامعيًّا يشرف على برنامج التعليم الجامعي، وفي ذات الوقت تابع حيث كان حصاده العظيم متوّجًا بشهادة الدكتوراة من جامعة طرابلس.
عبد الناصر عيسى لم يحاصره السجن بأيّ حال من الأحوال، بل هو حاصر السجن، واشتغل على جبهات متعدّدة، فكان مع دراسته الجامعية مشرفًا على البرنامج الثقافي العام في السجن، وكذلك في خط إنتاج ثالث الدراسات والأبحاث التي أنتجها، منها كتاب مقاومة الاعتقال بالشراكة مع مروان البرغوثي، وعاهد غلمة، ليشكّل وحدة ثقافية تتجلّى بأجمل تجلياتها بين الإسلامي والقومي واليساري، وكان له أن يزوّد المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي بثلاث مجلدات سنويًّا، بداية من عام 2018 تحت عنوان وفق المصادر، وكتاب مقالات حرّة، وكتاب دراسات محرّرة عدا عن الأبحاث والدراسات العلمية المحكمة.
ومن إنجازاته الثقافية المميّزة، إنشاء وإدارة مركز حضارات حيث يتابع حراكًا فكريًّا نهضويًّا علميًّا وعمليًّا، يسهم مساهمة فعّالة بنهضة أمّة تريد أن تتحرّر من السياسات الاستعمارية المجرمة، وكان له أيضًا أن يترأس تحرير مجلّة بعنوان "حريّتنا" وصلت حتى اليوم إلى العدد الخامس، والتي تسعى إلى أن تكون نبضًا عاليًا وواعيًا ومعبّرًا عن روح الحركة الأسيرة، وغاياتها وبرامجها وتطلعاتها وآمالها ومتطلبات إنسانيتها المهدورة على مذبح الحرية ومقت السجون وقهرها.
ومن جبهات عبد الناصر المميّزة أيضًا، دوره المركزي في مؤسسة العمل التنظيمي في السجون، وتفعيل خطوط الإنتاج فيها حركيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، لتتحوّل السجون من مدافن للأحياء إلى مصانع للرجال الأحرار.
ولا بدّ هنا من أن نسجّل أن هذه الإنجازات الهامة، وخطوط الإنتاج العظيمة التي صنعها بيديه، لا تعني أبدًا بأنها نهاية المطاف، بل هي مدعاة لنا كي نقول إن مكان هؤلاء العظام ليس السجون.
فإذا فعل كلّ هذا وهو في السجن، فماذا تراه فاعلًا لو كان خارجه؟ وأن من محطّاته المؤلمة والسوداء كانت حينما دخل هذا السجن، وكُتب عليه هذا الاعتقال الطويل.
رجل الجبهات المتعدّدة بامتياز يبحث اليوم عن جبهات لا يكون السجن من مكوّناتها، ليقوم بدوره الذي سيتضاعف عما أنجزه خلف القضبان.