بعد 56 سنة على احتلالها، ما زال الإسرائيليون ينظمون قصائد الشوق والحنين إلى القدس، ويفتشون عنها في المخطوطات القديمة، وفي الذاكرة المنسية، وفي شوارع القدس العتيقة، وهم في شكٍ من أمرهم، فهل صارت القدس مدينة موحدة تحت السيادة الإسرائيلية؟ أم ما زالت القدس مدينة منقسمة على نفسها، ترفض أن تعطي لجميع سكانها الحق في الحياة والعمل والتعليم وتلقي الخدمات؟
كثيرة هي الدراسات والأبحاث العبرية عن القدس، وكثيرة هي جلسات النقاش الإسرائيلي عن مستقبل المدينة المنقسمة بين قدس شرقية يسكنها العرب الفلسطينيون، وهي موحدة في اللغة والتاريخ والعادات والمعتقدات والسمات والأحلام والطموحات، وبين قدس غربية يسكنها اليهود، وهي منقسمة فكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا كما أنها منقسمة في الجغرافيا السياسية، وفق ما أظهره استطلاع رأي أعده "مانو جيفع" ومعهد "مدجام" ونشرته القناة 12 العبرية، وفيه طُرح السؤال الآتي على الإسرائيليين:
هل القدس مدينة موحدة؟
وكان الجواب فاضحًا، إذ قال 65% من الإسرائيليين: إن مدينة القدس غير موحدة، في حين أجاب 23% فقط من المستطلعة آرائهم أن مدينة القدس موحدة
أن يعترف 65% من الإسرائيليين بأن القدس عاصمة دولتهم ـ كما يزعمون- هي مدينة غير موحدة، فذلك يعني أن هذه النسبة من السكان تدرك أن الدولة كلها غير موحدة، وتعيش حالة انقسام اجتماعي وفكري وسياسي منذ زمن أسبق من زمن الانقسام، حول التعديلات القانونية، وهذه النسبة من الإسرائيليين أقرب إلى قراءة الواقع، وأكثر جرأة في الجهر بالحقيقة، وتقرُّ بأن مدينة القدس مختلطة، فالمدينة يسكنها 375 ألف عربي فلسطيني، وفق الإحصاء الرسمي الإسرائيلي، وهؤلاء العرب يشكلون نسبة 40% من سكان المدينة، وهم السكان الأصليون، ذوو الملامح الشرقية، والعادات العربية، في الوقت الذي يشكل فيه اليهود نسبة 60% من السكان الوافدين على مدينة القدس، ولكنهم يختلفون في ملامحهم وطقوسهم وبيئتهم، ومنقسمون بينهم إلى عدة طوائف. فمنهم نسبة 35% من اليهود الذين ينتمون لطائفة الحريديم المتشددة دينيًا، ومنهم نسبة 20% من اليهود العلمانيين، الذين لا يلتزمون كثيرًا بتعاليم التوراة، ومنهم 25% من اليهود المتزمتين، ولهؤلاء اليهود طقوسهم الخاصة بهم، وأسلوب حياة يختلف عن بقية اليهود، ومنهم 20% من اليهود المتدينين التقليديين.
من هذا التمزق الطائفي والروحي بين اليهود في القدس الغربية نستنتج أن تكرار مسيرة الأعلام الإسرائيلية كل سنة تهدف إلى دمج المجتمع الإسرائيلي في بوتقة واحدة، بعيدًا عن التقسيم الطائفي والحزبي والاجتماعي الذي يفرق المدينة، ويضرب جذوره في مجمل مناحي الدولة، ليصير رفع العلم الإسرائيلي في مسيرة الأعلام عنوانًا لوحدة المجتمع، وتغطيةً على الحقائق المغيبة عن دولة منقسمة، وعن طوائف يهودية لم تكن موحدة في يوم من الأيام.
وحين سُئل الإسرائيليون عن رغبتهم في الإقامة بمدينة القدس، أو السكن بالعاصمة ـ كما يزعمون ـ كان الجواب صادمًا لقيادتهم، إذ قال 62% من الإسرائيليين: إنهم لا يرغبون بالعيش في العاصمة، وهذه النسبة مؤشر على قلة الانتماء، وعلى عكس ما يزعم قادة الأحزاب السياسية، بأن القدس هي العاصمة الروحية والمعنوية والمادية لكل يهود الأرض، لذلك أظهر الاستطلاع أن نسبة 30% من اليهود فقط، يرغبون بالعيش في العاصمة التي تمنح البركة، وفق ادعائهم، وهذا يدلل على أن الغالبية العظمى من اليهود غير واثقين من مصداقية كتاباتهم التاريخية ولفائفهم الدينية.
التقرير الذي قدمته القناة 12 العبرية أشار إلى أن مدينة القدس فقيرة جدًا، ونسبة الفقر في القدس هو ضعفي نسبة الفقر في بقية المدن الإسرائيلية، وهذا الحال من الفقر يتناقض مع حال كل عواصم دول العالم، إذ تكون العواصم هي الأكثر ثراءً، والأكثر أمنًا واستقرارًا، والأكثر جذبًا لبقية السكان، ولكن مدينة القدس الطاردة لبقية السكان، يتلقى مجلسها البلدي مساعدات من الحكومة بمبلغ مليار شيكل سنويًا، وهو مبلغٌ يعكس حجم البطالة وقلة الإنتاج، واعتماد الكثير من يهود القدس على المساعدات المقدمة من الحكومة، فغالبية سكان المدينة من المتدينين الذين يتلقون المخصصات الشهرية، وهم لا يعملون، ولا يتجندون في الجيش، ولا يشتغلون إلا في المدارس الدينية، يحفظون التوراة، ويقرؤون التلمود، ويحرصون على تطبيق التعاليم الخرافية، ويطمعون بالجنة يوم القيامة.
عاجلًا أو آجلًا، سينفرط عقد هذه الدولة، فالمجتمع الذي يعجز عن توحيد سكان القدس من اليهود في إطار روحي جامع، وفي منظومة اجتماعية موحدة، هو أعجز عن توحيد سكان الدولة بكل قاطنيها؛ من عرب ويهود وشركس ودروز وغيرهم، حتى ولو ادعى أن دولته ديمقراطية يهودية، فالعنصرية لا تلتقي مع الديمقراطية، والعنف لا يرقق المشاعر الإنسانية، والاعتداء على حقوق الآخرين يتناقض مع العدالة والحرية.