في السبعة عشر عامًا الماضية خاضت المقاومة و(إسرائيل) نحو عشرين جولة صراع، منها خمس حروب كان آخرها حرب ثأر الأحرار قبل أيام قليلة، وبعد كل حرب أو تصعيد من جولات الصراع، لم تكن المعادلة بين الطرفين تتغير كثيرًا، اللهم إلا ادعاء الاحتلال أنه حقق أهدافه من العملية الحربية، وإعلان المقاومة أنها أفشلت أهداف العدو وحافظت على قواعد الاشتباك التي حاول الاحتلال تغييرها لمصلحته.
المحللون العسكريون والسياسيون المَحسوبون على الاحتلال تذهب تحليلاتهم إلى أن (إسرائيل) ما تزال تنتهج أسلوب جزّ العشب تجاه المقاومة، بمعنى إضعاف قدرات المقاومة كلما وجدت من خلال معلوماتها الاستخبارية أنها تعاظمت، ويشمل ذلك طبعًا التخلص من بعض القيادات سواء كانت العسكرية أو السياسية كلما أمكن ذلك.
وفي الوقت ذاته يعلن المحللون والمتابعون المحسوبون على المقاومة أن المقاومة خرجت بعد كل جولة تصعيد أكثر قوة وأشد عزمًا ومضاءً وإصرارًا على تحقيق الأهداف، وبين هذا وذاك تبقى رحى الصراع دائرة، لا شك أن الصراع الدائر هو صراع حق وباطل، ولا شك أن الشعب الفلسطيني ومقاومته على الحق والعدو على الباطل، ولا شك أن حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال لتحرير أرضه مدعوم بالقرارات الدولية وحقائق التاريخ والمنطق والضمير الإنساني، ولا شك أن وجود الاحتلال قائم على غطرسة القوة ولغة المصالح وتغييب القانون الدولي وموت الضمير، ويبقى المواطن الفلسطيني الذي يعاني منذ مئة عام واقعًا تحت المعاناة الإنسانية التي تتعدد أشكالها ما بين الموت، وتدمير البيوت، واعتقال الأبناء والآباء، وتجريف الأراضي وحرق الأشجار، ناهيك بالفقر والعوز الناتج عن الحصار المجرم الذي يفرضه العدو على المواطن الفلسطيني في غزة، وأساليب القهر الإنساني والفصل العنصري المفروضة على المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وداخل الخط الأخضر 1948م، ولكن الحق يبقى قائمًا لا يمكن لكل قوى الأرض أن تسلبه أو تغيبه أو تلغيه ما دام صاحبه يتمسك به، ولا يمكن للباطل أن يشرعن حتى لو وقفت كل قوى البغي خلفه، وسيبقى وجوده باطلًا لا أصل له، وأمام هذه الحقائق يجب على القيادات التي ترعى مصالح شعوبها أن تعمل بحكمة الأنبياء والصديقين من أجل تحقيق ما يمكن تحقيقه من تلك المصالح، دون الغلو في استنزاف طاقات الشعب المستنزفة أصلًا، ودون رفع شعارات ذات أسقف عالية تدغدغ عواطف المواطن لمدة، ولكنها في الوقت ذاته تزيد استنزاف طاقاته دون طائل، ثم تصبح هذه الشعارات بمنزلة قيد يكبل من رفعها وتغنّى بها، ولا يجد سبيلًا للتنازل عنها فيصبح أسيرًا لها، ودون تفريط يضيع الحقوق التي سالت في سبيلها الدماء، وضُحِي من أجلها بالحريات، وخِيضَتْ في سبيلها المعارك بدعوى الواقعية التي هي في أصلها استسلام، فالمقاومة حق وواجب، وهي تعني التضحية في أبهى صورها، ولكن العمل وفقًا لها لا بد ألَّا يكون على حساب استنزاف الوطن والمواطن دون أي نتيجة تتحقق، وإلا كنا كما يهدم ما تبقى من البيت من أجل بناءٍ أحدث وأقوى وهو لا يملكه، ونصبح كالذي لا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع.
فالمقاومة هي وسيلة الشعوب لتحقيق آمالها وتطلعاتها ونهضتها ورفاهيتها، من أجل ذلك تكون التضحية التي تقدم للحصول على الحق، علمًا بأن التمسك بالحق بحد ذاته هو مقاومة، بل وأصل المقاومة وما يصاحب هذا التمسك من مفاعيل ميدانية وسياسية هو انعكاسات لشكل التمسك بالحق كموقف مبدئي.
إذن، أخلص مما سبق إلى نتيجتين، الأولى: أن شعبنا يرفض التنازل عن حقه، ويرفض مسارات التسوية الوهمية مع العدو بعد أن ثبت خِداعه هو والمجتمع الدولي، ولقد عبَّر عن ذلك جليًّا وقانونيًا في الانتخابات التي جرت وتجري في الجامعات والنقابات والمعطلة للمجلس التشريعي والرئاسة بقرار ممن تشبث بالسلطة دون وجه حق، كما عبَّر شعبنا عن ذلك ميدانيًّا بالالتفاف الجماهيري الواسع حول قوى المقاومة ونبذ وعزل بل وازدراء الفريق الضئيل الذي لا يزال يتشبث بمسار التسوية وهمًا أو مصلحةً.
والنتيجة الثانية: هي أن شعبنا متمسك بحقه، ويساند كل من يتمسك بهذا الحق، ومستعد للتضحية من أجل الحق، ولكن على من يقود هذا المسار أن يتحلى بحكمة السير في طريق الأشواك الدامي، بحيث يجعل للمواطن فسحة يلتقط أنفاسه منها حتى تبقى لديه القدرة على المواصلة، فلِشعبنا الحق في أن ينال بعضًا من العيش الكريم والآمن، وأن نفتح أمامه آفاق المستقبل، فالمقاومة لا تعني العدمية، ولا تعني إغلاق الأفق، ولا تعني وجوب أن يعيش الفلسطيني بشكل دائم يستنشق رائحة الموت وطعم الدم ولهيب النار، وهذه مسؤولية القيادة وحكمتها التي أولاها شعبنا راغبًا واثقًا شرف القيادة.