لا شك أن الاحتلال يعزز في هذه المرحلة من حالة النشوة التي يمر بها بعد مواصلة عدوانه على قطاع غزة والضفة الغربية واغتياله عددًا من قادة وكوادر المقاومة، إذ تعتقد الحكومة الصهيونية أنها حققت إنجازات كثيرة على كل الأصعدة، والساحات، وأنها باتت تمتلك الكثير من العوامل التي تدفعها نحو ارتكاب المزيد من الجرائم بحق أبناء شعبنا، ولا سيما في ظل الاندفاع الدبلوماسي الصهيوني للتقارب مع بعض الأطراف العربية في مسار التطبيع وتعزيز العلاقات الصهيونية في المنطقة.
وبصرف النظر عمّا آلت إليه الأحداث الأخيرة في القدس، وانتهاك المستوطنين المسجد الأقصى خلال مسيرة الأعلام، وما نجم عن الاقتحامات الصهيونية المتواصلة في الضفة واغتيال عدد من كوادر المقاومة، وتشديد الخناق على قطاع غزة، من خلال الحصار، ومنع دخول الأموال للقطاع، ووقف برامج المساعدات الإنسانية عن (200) ألف عائلة فلسطينية وفقًا لإحصائية برامج الغذاء العالمية في القطاع، فإن حالة الاندفاع التي تمر بها الحكومة الصهيونية ليست جديدة، باعتبارها حالة تمثل النهج والسياسات الاستعمارية في فلسطين منذ عام 1948، لأن التدافع الصهيوني في المنطقة لم يجد رادعًا حقيقيًا في منطقة الشرق الأوسط، ولم تُقيد أدواته السياسية والأمنية التي عملت على تخريب البنية المجتمعية لدى الشعوب العربية، وساهمت في اتساع الفجوة بين الثقافة الوطنية للشعوب وبين ما تتعرض له الأراضي الفلسطينية من انتهاكات وجرائم متواصلة، في إطار معركة "كي الوعي" التي يعتقد الاحتلال أنها حققت نجاحًا في دق الأسافين بين الشعوب العربية، والأنظمة بعضها ببعض.
عملت ولا تزال حكومات الاحتلال على اعتماد إستراتيجيات رئيسة في ظل معادلة حسم الصراع مع الفلسطينيين على وجه التحديد، واللجوء إلى فواعل أخرى لتثبيت هذه المعادلة، وتحريك العديد من أدواتها في المنطقة لقتل روح المقاومة الثائرة في صفوف الأجيال الشابة، باعتبار أن أدوات الحسم التي يمتلكها الاحتلال ستفشل مستقبلاً في حال تشكلت بنية قيادية شابة تتبنى خيارات وتوجهات مشروع المقاومة، لكونها الأكثر قدرة على إطالة أمد الصراع مع الاحتلال، وهو ما تُعبّر عنه منظومة الأمن الصهيونية بالمهدد الديموغرافي لكون العمليات الفدائية التي نفذت في الضفة والداخل المحتل جاءت في إطار فشل المنظومة الأمنية في تقديرها موقف الأجيال الشابة مما يسمى "حسم الصراع".
إذ شكلت هذه الخطوة ضربة استباقية لقادة الاحتلال، ولا سيما المنظمات اليهودية التي تحاول طمس الهوية الفلسطينية واستنزاف الإرادة الشابة، وضرب القيم الإسلامية والوطنية، ونسف أي معتقدات أخرى يؤمن بها الشباب الفلسطيني، ويتخذ منها ركنًا شديدًا لمقاومة الاحتلال، وأذكر هنا ما قاله رئيس الوزراء الصهيوني السابق رابين: "إن الفلسطينيين يمتلكون القدرة على مهاجمة الجنود والمستوطنين وهم لا يحملون السلاح، ولا يمتلكون آلة قتل، فكيف يحققون النجاح؟"، كذلك ما صرح به رئيس الوزراء الصهيوني "إيهود أولمرت" بعد العدوان على غزة 2008-2009 بأن "عمليات الجيش استُنفدت في قطاع غزة، لكن هناك شيء ما يدفع الفلسطينيين لإطلاق المزيد من الصواريخ، من أين يخرجون؟
إلى جانب ذلك لا تزال تقييمات المنظومة الأمنية لدى الاحتلال تضع عمليات الجيش بين قوسين، وتتهم أوساطًا في القيادة السياسية بالإخفاق وعدم تحقيق الأهداف التي تحفظ الأمن لكل المدن المحتلة بما فيها مدن ما يسمى الغلاف التي تقع تحت التهديد الدائم أمام صواريخ المقاومة، حيث أكد جنرالات متقاعدون من الجيش الصهيوني، وخبراء أمنيون، أن أهداف العدوان الذي شنه الاحتلال على غزة في مايو الجاري انحصرت بين مساعي نتنياهو لتحقيق أهداف شخصية، ورغبة الأوساط اليمينية لجر المنطقة لحرب شاملة قد تطيح بدولة الاحتلال وتعيدها إلى البدايات، وهو ما كشفت عنه العديد من منصات الإعلام العبرية أو ما نسميهم "نشطاء الإعلام" في المجتمع الصهيوني، والتأكيد أن العدوان لم يحقق الردع ولم يستطع الجيش وقف النشاط المسلح للمقاومة في غزة، وتحميل المسؤولية لقادة الاحتلال وتحديدًا (نتنياهو، وغالانت، وهاليفي)، كما أكد رئيس قسم الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية للجيش "أمان"، أنه يرصد لأول مرة بداية ضعف العوامل التي سمحت للاحتلال بإدارة الصراع مع الفلسطينيين، محذرًا مما وصفه "إلحاق الضرر بالعوامل التي جعلت من الممكن إدارة الصراع مع الفلسطينيين، باعتبار أن الأوضاع في الضفة وغزة في طريقها إلى عدم الاستقرار".
إن غالبية المعطيات السابقة تؤكد أن الاحتلال فشل في إدارة الصراع، أو حتى حسم الصراع وفقًا لخطة الجيش التي أشرف عليها "الكابينت" التي تأتي في إطار توسيع العدوان ووضع آليات وإستراتيجيات لكبح المهددات سواء في المناطق الفلسطينية أو الحدود اللبنانية مع حزب الله، باعتبار أن مصادر التهديد تتسع رقعتها في ظل ما يثار بشأن إمكانية فتح جبهة قتال شاملة، الأمر الذي سيُعجّل من يوم القيامة لـــــ (إسرائيل).