كما كان متوقعًا لم يتأخر الرد الإسرائيلي على القمة العربية بجدة، بل لعل التجربة أكدت أنه كلما تعلق الأمر بعقد قمة عربية أقدمت (تل أبيب) على توجيه رسائلها المضمونة، ممثلة في قنابلها الموجهة للفلسطينيين، إمعانًا في الاستخفاف بالموقف العربي، وتأكيد ما تتمتع به من حصانة وضمانات دولية لجرائمها التي لا تتوقف، ولآلة القتل والدمار والترهيب التي لا تهدأ.
ولعل حكومة نتنياهو استشعرت ما تضمنه البيان الختامي من تأكيد متجدد على دعم القضية الفلسطينية ودعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الجلاد، فاختارت أن يكون الرد على ما تضمنه البيان من كلمات وتنديدات بالرصاص الحي، إمعانا في التنكيل بالفلسطينيين، وأيضًا إمعانًا في الاستهانة والاستخفاف بالعرب وجامعتهم، كما بالمجتمع الدولي الذي اتجهت أنظاره إلى هذه القمة عسى أن تكون منعرجًا في التعاطي مع القضايا المصيرية العالقة لإنهاء نزيف طال أمده وثقلت تداعياته.
وقبل حتى أن يجف الحبر عن البيان الختامي للقمة العربية المنعقدة في مدينة جدة نهاية الأسبوع المنقضي، وربما قبل حتى اختتام أشغال القمة العربية في دورتها الثانية والثلاثين، التي خصصت جزءا من البيان لتأكيد استمرار التضامن والدعم للقضية الفلسطينية كما هو الحال منذ أول قمة عربية في أنشاص جاء الرد الإسرائيلي يحمل إمضاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ومعه وزير الأمن القومي المتطرف "بن غفير" في خطوة استفزازية لا تخلو من حسابات دقيقة في اختيار التوقيت كما في اختيار المكان بما يؤكد أن العقلية الإسرائيلية الاحتلالية التي تقوم على الدم وإلغاء الآخر لا تتغير ولا تحيد عن سياستها العنصرية التي قامت عليها منذ أكثر من قرن من الزمن، وهي عقلية تأسست ونمت واتسعت على القتل اليومي والإبادة الجماعية والعنصرية والرقص على الشرعية الدولية التي تتلاشى وتندثر كلما تعلق الأمر بالإجرام الإسرائيلي.
ساعات إذًا بعد اختتام أشغال القمة العربية صدرت عن (تل أبيب)، رسالتان مضمونتا الوصول حملتا توقيع نتنياهو رئيس حكومة كيان الاحتلال المتطرفة؛ أما الأولى فتتمثل في إقدام نتنياهو يوم الأحد على عقد اجتماع حكومته في أنفاق “حائط البراق” في محيط الأقصى، وأعلن نتنياهو بوقاحته المعهودة خلال الاجتماع أنه يرد على تصريحات رئيس السلطة محمود عباس خلال القمة العربية بأن الإسرائيليين لا علاقة لهم بالقدس والحرم وأن شرق القدس جزء من مناطق السلطة، وقال نتنياهو: ”لذلك ألفت انتباهه (ويقصد أبو مازن) أننا اليوم نعقد اجتماعنا الخاص هنا في عمق القدس وحرمها لنوضح "ارتباطنا بعاصمتنا، وأن اليهود هنا قبل ثلاثة آلاف عام”، على حد زعمه. وأما الرسالة الثانية ولا نخالها تخفى على مراقب فقد صدرت عن وزير الأمن القومي المتطرف الذي اقتحم الأقصى بحماية جيش الاحتلال أسوة بما أقدم عليه البلدوزر شارون سنة 2000 قبل أكثر من عقدين من الزمن ليطلق بذلك شرارة الانتفاضة الثانية.
هذه الرسائل المتواترة لسلطة الاحتلال تأتي أيضًا على وقع مسيرة حملة الأعلام التي يراد من خلالها إنفاذ مشروع يمنع العلم الفلسطيني، وتجريم من يقدم على ذلك داخل خط الـ48 وهي خطوة غير مسبوقة تعكس من جانبٍ عمق الحقد إزاء كل ما يتعلق برموز القضية الفلسطينية، ولكنها تكشف في الوقت ذاته رعبًا داخليًا من أسلحة فلسطينية رمزية ممثلة في العلم الفلسطيني الذي يفترض أنه المظلة والعنوان الذي يتسع لكل الفصائل الفلسطينية في هذه المرحلة التاريخية التي تمر بها القضية الفلسطينية التي تتعرض للتصفية العلنية ومحاولات قبرها وإلغائها من التاريخ والجغرافيا، بما يعني أنه ربما سيتعين الانتباه إلى ما يمكن أن تتجه إليه حكومة نتنياهو وبقية العناصر الإرهابية المتحالفة معه من سيناريوهات دموية لتصدير أزماتها الداخلية وتحويل الأنظار عن الصراعات الإسرائيلية الداخلية، ودفع الفلسطينيين نحو مجزرة مفتوحة. على وقع قمة جدة اختارت حكومة نتنياهو صب الزيت على النار، والدفع نحو حرب جديدة على الشعب الفلسطيني قد لا تتضح مآلاتها في الوقت الراهن، وفي انتظار ما ستؤول إليه قرارات قمة جدة على أرض الواقع وما إذا يمكن أن تدفع إلى تغيير جذري في المشهد يبقى الأكيد وهذه قناعتنا أن البدائل والحلول ممكنة بكل أنواع الأسلحة السياسية والدبلوماسية والإعلامية، وهي أسلحة تحتاج لبعض من الجرأة والإرادة، وهو سلاح مقدور عليه ويمكن تفعيله بالتلويح بتجميد التطبيع المجاني مع سلطة الاحتلال واشتراط اعتراف (إسرائيل) بالشرعية الدولية وإنهاء الاحتلال. قد يكون في هذا الموقف ضربًا من ضروب الهراء والأوهام إلى درجة الغباء، ولكن ذلك هو الاختبار والخيار الأصح من أجل بعض ماء الوجه.