لا يمكنني التكلم في أي تحليل سياسي الآن لأن المشهد تسوده ميتافيزيقيا الشهداء، والشهداء لم يعودوا يرغبون في سماع كل هذا الهراء، الشيء الذي يمكن سماعه الآن هو هدير المشيعين وصيحات الله أكبر التي حملت النعوش الطائرة فوق الأكتاف فيما خضر عدنان يراقب المشهد من بعيد ويشارك الشهداء بسمة الشهادة فوق الأرض المباركة، وفوق الأرض المباركة تحول هؤلاء إلى كائنات سماوية راقية في سلم الإيمان والوفاء.
في الجهة السفلية وقرب الكائنات الأرضية كما نتنياهو، فقد أوعز لقواته وجنوده الاشباح بالاستعداد لأي تصعيد تحت شعار (لا حصانة لأحد) فيما نبضات قلبه تتعدى المائة، أما بن غفير فقد راح يتململ لهذه الضربات التي لم تملأ حقده بالموت الكافي وهو لا يجزم : هل تناول حبة الضغط صباحا أم فات وقتها ؟، في الأثناء يؤكد جالانت بأن اليد الطولى لدولة الحاخامات ستصل للإرهابيين في كل مكان وزمان وبعدما انتهت العبارة راح يحك رأسه ويحاول تذكر طول اليد الفلسطينية، أما المجتمع العبري فقد سجل ارتياحه و هلل مباركته لهذه الاحتفالات الدموية وتراخت حدة غضبه وسخطه على الحكومة الاسرائيلية لأن الدم الفلسطيني له قدرة عجيبة على تهدأة مصاصي الدماء وجبر خواطرهم التي نزلوا لأجلها إلى الشوارع.
تعرف المعجزات تقنيا بأنها ظواهر أو أحداث خارقة للعادة و لقوانين الطبيعة وما تعارف عليه العقل وقبله حكم المنطق، إنها مخالفات مفاجئة تكسر ما هو محتوم ومحسوم سلفا، والمعجزة لا يكفيها بأن تكون شيئا متمردا عن القاعدة الدارجة بل يجب أن تتمتع بصفة أخرى أكثر أهمية وهذه الصفة تتمثل في أن تتحول هذه المعجزة إلى نوع من الشفاء أو العلاج لعقدة مستعصية أو مشكلة ميؤوس من حلها وهذا ما ينطبق على معجزة المقاومة الفلسطينية في غزة والمدن الفلسطينية.
حكم المنطق في غزة يقول بأنها مدينة بحرية صغيرة تخضع لحصار قاتل منذ أكثر من خمسة عشر عاما لأنها رفضت نهج التدجين وتعرضت لعدة حروب إبادة لا تزال خراباتها موجودة تشهد بذلك ونال سكانها من القصف والموت والتعذيب من العدو ومن الأنظمة العربية ما نالوا، ، في غزة بسبب الحصار كل الأصناف محرمة من صغير الأشياء حتى كبيرها دون سبب أو مبرر، فقط هكذا، من الاسمنت حتى البسكويت، من السماد وحتى حديد البناء، من الأعلاف حتى الحبوب التي تعتبر غذاءا أساسيا، في غزة الدواء شيء نادر وعزيز ومن يبتلى بمرض عضال فحياته عذاب وضنك لا ضنك بعده ولا قبله، في غزة كل شيء مشكلة من الورق والكتب والأقلام وحتى الممحاة، في غزة مقطوع الرزق ومسلوب الأجل وطائرات الموت تحوم مثل الذباب فوق رؤوس الضحايا والكل يمثل مشروعا لشهيد حي يصول ويروح ويجيء في أكبر سجن بشري، فوق سماء غزة تترصد أربعة أقمار صناعية امريكية متقدمة تكلف مليارات الدولارات مخصصة بالكامل لخدمة (إسرائيل)، هدفها التصوير الدقيق والرصد المحيق لمعرفة كل تفصيل في كل شارع تصوير بالأشعة الضوئية وتصوير بالأشعة تحت الحمراء ومسح بالمجال المغناطيسي ومسح للجاذبية الأرضية ومسح بالليزر، إنها أكثر مدينة عبر التاريخ مفصلة تفصيلا دقيقا في غرف الاستخبارات الاسرائيلية، الأقمار الصناعية تعرف كل شيء، كل بيت، كل حي، كل عمارة ماذا فيها ومن يسكنها وأين يقع المطبخ في بيت أم السعيد وأين يقع سرير الشاب أحمد ومتى سيتخرج من جامعة الأزهر، في غزة يرصد كل حادث مهما كان صغيرا أو أي تفصيل، هل ولدت السيدة علياء وكم أصبح عدد أبنائها ؟ هل حصل محمود على وظيفة ؟ كيف وأين وما المرتب ؟ هل تزوج اسماعيل أم اوقف مشروع الزواج لأن خطيبته رفضت السكن مع عائلته ؟ كل تفصيل وكل صغيرة وكل كبيرة يتم رصدها في غزة ويتم ادخالها في كمبيوتر الحسابات ليتوصل إلى قائمة الأولويات ويضع لائحة القتل والتدمير والفتك بالناس، في غزة كل شيء مشكلة من ماء الشرب حتى الكهرباء التي تأتي عدة ساعات ولا يراهن عليها من المولدات البالية، لا بنزين ولا غاز وكل وقود هو مشكلة كبيرة فعلا.
هذه هي غزة بكل اختصار وكل احتضار ! ولهذه الأسباب فعلم العقل و علم المنطق يقول بأن مدينة بهذه المواصفات وبهذه الحالات يجب أن تتمتع بهامش مرتفع من الركوع والقبول والاستسلام والرضوخ كي تحصل على كهرباء وماء وأسمنت وغذاء وأدوية ولا يمكن لأحــد أن يعتب عليها خاصة إذا عرفنا بأن كثير من عواصم العرب تمارس هذه الظاهرة طوعا وحبا بلا حرج ولا عتب ودون أية ضغوط فكيف بغزة ؟!
وبما أن غزة فعلت عكس كل ذلك المنطق وعاكست مجرى العقل والتاريخ وحسابات (اسرائيل) وأذنابها فقد حققت الشرط الأول في مفهوم المعجزة، وبما انها فعلت فعلتها ورفعت رأس العرب والمسلمين من الطين والوحل والخزي العار الأزلي من خلال هذا العكس فنحن أمام الشرط الشفائي في معجزة لا مثيل لها، ولهذا السبب فهذه المدينة وسكانها الفلسطينيون سوف يدفعون بالعصابة الطينية إلى الهذيان والجنون !
المعجزة في غزة ليست هندسة الصواريخ ولا استحضارها من أبسط المواد، إنها ذلك القرار من المقاومة الفلسطينية القاضي بقصف (اسرائيل) بالصواريخ وتحمل النتائج المترتبة على ذلك التي لا يمكن لدولة كاملة أن تتحملها، المعجزة في غزة ليست في امتلاك السلاح وتصنيعه ولكن المعجزة تكمن في الروح الجريئة التي قررت استخدامه في المكان الصحيح والزمان الصحيح لتضرب العدو الذي يكبل عالم العرب عن بكرة أبيه، المعجزة في غزة هي الروح الفلسطينية الحرة الأبية التي لبت نداء القدس والشهداء والحرية وحي الشيخ جراح وصوم الشيخ خضر ولم تخذل الشرفاء مرة واحدة وتمكنت من كسر هالة الرعب المزروع منذ خمسة عشر عاما،
المعجزة في غزة هي وثبة صغيرة قفزت فوق سورعال من الجُبن العربي والإسلامي والخذلان العالمي لأعدل قضية في التاريخ وتاريخ طويل من الهزيمة لكل الجيوش العربية المخذولة، المعجزة في غزة هي الشعب الجبار الذي يقف قرب الركام وتحته أبناؤه وبناته وزوجته ثم يقول لميكروفون الفضائيات بأنه يقدم نفسه وابناءه وعائلته فداءا لفلسطين والقدس وينذر كل حياته لمزيد من مواجهة (إسرائيل)!
المعجزة في غزة طفلة صغيرة تحمل لعبة زهرية اللون ممـدة على حطام بيتها قرب أشلاء أبيها وتعلو وجهها بسمة البراءة المتحجرة كي تمنح هذا العالم الرخيص مرآة زمنية نادرة ليرى قبحه وحقارته ونذالته وخسته وانسانيته المزيفة، المعجزة في غزة هي شبان مقاومين تربوا على نهج الاستقامة ولا يتكلمون بذاءة ولا قلة أدب وكلامهم عربي قويم مشتق من تعلم آيات القران الكريم لا ترى فيه عوجا ولا خوفا ولا ارتجافا، المعجزة في غزة هي خريج جامعي ملك من العلم وحوله إلى ترجمة عملية لخدمة بلاده ووطنه والمقاومة التي تحمي مصيره وحياته ومستقبله، المعجزة في غزة مالك برج يقف أمام ركام برجه ليقول لكاميرات العالم بأن كل ماله وممتلكاته هي هبة لأجل فلسطين ولآجل المقاومة، المعجزة في غزة هي أنها تحملت كامل المسوؤلية وانتقلت المعركة اليها وراحت تتحول إلى مدرسة في البطولة والصمود والتحدي الانساني الذي لم يخلق له مثيلًا.
المعجزة في غزة هي أن كل طائرات الإف 16 والإف 35 وهندسة الموت الأمريكية لم تتمكن من صناعة الذل والانبطاح رغما عن الموت والرماد، المعجزة الأشد هي أن ترد وتضرب ضربتك بيدك المقدسة المصنوعة من حديد ونار، المعجزة الأشد أن تضرب فيما خزي العرب يروادك عن عن نفسك ويثبط عزيمتك، المعجزة الأشد أن تتحول إلى كابوس ورعب يمنع نومهم وينغص معيشتهم وتحولهم إلى سخرية بين يديك، المعجزة الأكبر والأعظم أن غزة والمقاومة الفلسطينية تحولت إلى مصدر الإلهام وصانعة النفوس العظيمة وتلهب الشعوب في كل أصقاع الأرض عربا وعجما ليثوروا وينتصروا لها لأنها العدل والحق الذي لا ريب فيه، هذه هي مدينة غزة وهذه فلسطين وشعبها المعجزة !
غزة التي فقدت كوكبة من شهداء المقاومة والكرامة هي المستقبل العربي و محك الوطنية الحقيقية لفلسطين، وغزة اليوم هي محك الرجولة التي فقدها العرب بعد ان فقدوا عذريتهم مع تسيفي ليفني وبيريس ومن يعلقون نجمة داوود في سلسلة خفية تحت قمصانهم،
لا تخافوا على غزة لأنها قد كبرت قبلا منا جميعا ونضجت باكرا مثل الاخت الكبيرة التي قدر لها اليُتم العربي أن ترعى كل الأخوة الصغار وتضحي بشبابها وجمالها لقاء ذلك، لا تخافوا على غــزة لأنهـــا أقوى من كل الجيوش العربية والمدافع التي تشرب الويسكي بمعية الجاثمين على صدور الشــعوب، لا تخافوا على غــزة فلسطين فهي تعرف درب الهوى والتمرد على المذلة التي يتمرغ فيها غيرها، غزة لم تعد تخشى الموت بعد اليوم لكن من يموت كل مرة هم من راهنوا على انكسار روح هذا الشعب الذي يرفض أن يموت !
يا أيها الساقط من السماء المباركة أبلغ من تسقط عليهم بأن الشهداء لا يغفرون ولا يسامحون، يا أيها الصاعد من غضب الجبارين اذهب شمالا قرب الجليل أو حَلِّق فوق يافا كي تستعيد اليقين !، يا أيها الفتى الناري المكرس للندى لا وقت للمنفى وأغنيتي، سنذهب في الحصار حتى نهايات العواصم فاذهبْ عميقاً في دمي، اذهبْ براعمْ، و اذهبْ عميقاً في دمي، اذهبْ خواتم.
و اذهبْ عميقاً في دمي، اذهب سلالم، يا أحمدُ العربيُّ، قاومْ !