كانت العبارة التي تثير حالة من التندر في الأوساط الشعبية العربية، إذ كانت تعبيرًا لطيفًا أو دبلوماسيًّا عن حالة العجز العربية مقابل حالة الاستعلاء والغطرسة الصهيونية، وما جعل تلك العبارة إحدى لوازم الخطاب السياسي العربي هو أن الأنظمة العربية تعودت استخدامها في مواجهة الجمهور العربي الذي يطالب بالثأر من العدو أكثر منه لتحدي العدو المعتدي، من نافلة القول طبعًا أن تلك العبارة لم تكن تثير لدى العدو أدنى اهتمام أو اعتبار.
فلم يكن يسارع العدو عند إطلاق ذلك الشعار إلى إعلان أي إجراءات أو إصدار تعليمات لجبهته الداخلية أو الإيعاز لوحداته وتشكيلاته العسكرية برفع درجة الاستعداد إلى الحالة القصوى، بل لربما كان يحدث العكس تمامًا؛ إذ كانت هذه العبارة دليلًا على أن الجهة العربية المستهدفة لن تفعل شيئًا، وذلك ما دفع (إسرائيل) إلى ممارسة هوايتها بالاعتداء على الدول العربية وهي واثقة أنها في مأمن من أي رد اعتمادًا على ما أسمته بعد ذلك بقوة الردع الإسرائيلية التي ألجمت الجيوش العربية وكبلتها، فلم تعد تملك لشعوبها ضرًّا ولا نفعًا أمام الجيش الصهيوني.
الأمر الذي هيأ الكيان للعيش في ظل حالة من الأمن غير المسبوق، والتباهي من قبل الشعب المصطنع للاحتلال بأن يد الجيش الإسرائيلي قادرة على الوصول لكل نقطة في العالم العربي، بل والإسلامي اعتمادًا على نظرية الردع، تلك التي استمرت سنين طويلة، وما كان لهذا الأمر أن يتغير لولا أن المقاومة الفلسطينية أخذت على عاتقها تغيير هذه المعادلة التي شكلت ندبة سوداء في الذاكرة العربية والفلسطينية على وجه الخصوص، خاصة وأن الشعب الفلسطيني تعرض لعديد المذابح والمجازر على يد الجيش الصهيوني.
ولم يكن يجد الشعب الفلسطيني من يرد كيد العدو عنه، اللهم من بعض البيانات العربية الهزيلة التي كانت دائمًا تبدأ بعبارة أن الرد سيأتي في الزمان والمكان المناسبين، فيدرك حينها الشعب الفلسطيني أن دمه ذهب هدرًا، وأنه لا سبيل للثأر لدماء الأطفال والشيوخ؛ الأمر الذي شكل التزامًا وطنيًّا وأخلاقيًّا لدى المقاومة الفلسطينية لترد دائمًا على اعتداءات الاحتلال فورًا، بل وفي كثير من الأحيان حتى دون أي تخطيط للرد، وكأنها تريد التخلص من تلك الندبة السوداء التي ضربت الوعي العربي مدةً من الزمن، وشكلت عقدة نفسية لدى المواطن العربي الذي تاقت نفسه لوجود قوة مهما كان حجمها للرد على الاحتلال، فكانت المقاومة التي اعتمدت الرد الفوري لسنوات ورفعت شعارها الأثير "الدم بالدم والقصف بالقصف والرعب بالرعب".
ولقد استطاعت المقاومة أن تصوغ هذه المعادلة بالدم والعرق والجهد وارتقاء الشهداء من القادة والجنود، حتى تغير الحال وأصبح الحديث المتداول إعلاميًّا منذ سنوات عن تآكل قوة الردع الإسرائيلية، وأصبح الشغل الشاغل للحكومات الصهيونية هو استعادة قوة الردع المفقودة، بل لقد أصبح هذا الشعار مجالًا خصبًا للمزايدة الانتخابية بين الأحزاب الصهيونية، ومن عجائب صنع الله في خلقه أن تصاغ العقيدة القتالية للجيش الصهيوني في أدائه القتالي على أن الرد الفلسطيني يكون فوريًّا على أي حماقة ترتكبها (إسرائيل) فأُعِدت الخطط العسكرية للعدو على هذا النحو، على اعتبار أن الرد سيتم على جريمة اغتيال قادة سرايا القدس في غزة فورًا، إذ ستنطلق الصواريخ مباشرة نحو أهدافها.
وكان العدو قد وضع في حساباته ذلك، ففتح الملاجئ، وأخلى مدن الغلاف، وأوقف حركة القطارات، وغيّر مسارات حركة الطيران المدني انتظارًا للرد الفلسطيني، ولكن يا للعجب! كانت المفاجأة بأن المقاومة تضع تكتيكًا جديدًا هذه المرة؛ بأنها سترد في الزمان والمكان المناسبين، ولكن شتان شتان بين هذا الشعار الذي رفعته المقاومة اليوم، وذلك الشعار الذي كانت ترفعه الأنظمة العربية سابقًا، فإذا كان ذلك الشعار يمثل عجزًا وذلًّا وهوانًا للأنظمة العربية، فإنه في السياق ذاته يمثل قدرةً وعزًّا ورعبًا لدى المقاومة، وإذا كان العدو قديمًا يركن إلى الهدوء والدعة والراحة عند إطلاق ذلك الشعار قديمًا فإنه اليوم يقف على ساق واحدة وتتسارع أنفاسه ويعُد الدقائق قبل الساعات انتظارًا للرد، وكأن لسان حاله يقول: حبذا لو رددتم علينا وأرحتمونا من حالة القلق والرعب القاتل التي نعيشها.
إذن، هي الإرادة والعزيمة والعقيدة الصادقة التي تجعل للشعارات روحًا وقيمة وتحولها من كلمات جوفاء فارغة إلى نار تلظى تحرق قلب العدو، وتحيل خططه العسكرية التي أراد بها استعادة "قوة الردع" المفقودة إلى كوميديا بائسة ترتد عليه بأثر عكسي، فالردع الذي سعى إليه تحول إلى رعب منتظر يشل حركة دولته دون طلقة واحدة، رغم أن الطلقة بل الطلقات قادمة لا محالة، وهو يدرك ذلك وما يملك حيلة إلا الانتظار المهين.