في الوقت الذي كانت المقاومة في قطاع غزة تخوض مواجهة مسلحة مع الكيان الإسرائيلي ردًا على استشهاد الأسير الإداري المضرب عن الطعام خضر عدنان، كانت شرطة السلطة في رام الله تدير عملية قمع لمُتظاهرين فلسطينيين خرجوا في مدينة جنين احتجاجًا على استشهاده، في حين كانت أجهزتها الإعلامية وقياداتها السياسية منخرطة في معركة إعلامية تستهدف مؤتمر فلسطينيي أوروبا الذي سيحتفلُ بعامه العشرين.
الصور والمشاهد المتباينة بين الرسائل التي ترسلها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وعموم الضفة الغربية مختلفة عن الرسائل التي كانت السلطة في رام الله تقدمها للداخل والخارج الفلسطيني والعربي، ففي ذروة الاشتباك مع الاحتلال انفجرت التناقضات بين السلطة والشارع الفلسطيني لتتسع معها الفجوة إلى حد لا يمكن تجاهله أو تجاوزه سياسيًا وإعلاميًا، فالسّلطة فقدت المبادرة والسيطرة على الشارع وباتت روايتها غائبة تمامًا عن تطورات الحدث ومتأخرة عنه.
من ناحية أخرى، برزت التناقضات والصراعات داخل الكيان الإسرائيلي وداخل حكومة نتنياهو نفسها؛ فحادثةُ استشهاد خضر عدنان والمواجهة التي تبعتها عززت الشعور والانطباع بفشل نتنياهو في التعامل مع المقاومة إذ كشف موقع "0404" العبري، أنه لا توجد لدى رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو خطة لتصعيد الوضع، وشن عملية كبيرة في غزة، ما يؤكد فقدانه زمام المبادرة والقدرة على الردع، في حين ظهرت المقاومة الفلسطينية كصاحبة اليد العليا في إطلاق المواجهة وفرض شروط وقف إطلاق النار على الاحتلال في الآن ذاته.
نتنياهو تعرض مباشرة لانتقادات قوية ولاذعة من أعضاء حكومته في اليمين القومي والديني، لقبوله بشروط المقاومة لوقف إطلاق النار، إذ اتُهم بالضعف وفقدان روح المبادرة، في حين اتهمه الأكاديميون والخبراء العسكريون والأمنيون خصوصًا في معهد دراسات الأمن القومي (INSS) بفقدان الإستراتيجية في التعامل مع المقاومة التي باتت تدير اللعبة وتحدد شروط المواجهة، وذلك بسبب خشية نتنياهو من انفجار مواجهة إقليمية تمتد إلى سوريا ولبنان، في حين يواصل غاراته على دمشق وحلب عاكسًا قدرًا كبيرًا من التخبط وفقدان البوصلة الإستراتيجية بدفعه نحو التصعيد ثم تقديم التنازلات لتجنبه.
المواجهة الخاطفة التي أعقبت استشهاد الأسير الإداري القيادي في حركة الجهاد الإسلامي خضر عدنان، بعد إضراب عن الطعام دام 87 يومًا، تقدم نموذجًا لهذا الواقع، بعد أن أكدت فقدان الاحتلال زمام المبادرة، فبالرغم من انسياقه الكامل للرؤية اليمينة التصعيدية، إلا أنه يفتقد إلى الإستراتيجية التي تسمح له بالتعامل مع تداعيات سياسته اليمينية التصعيدية المُتطرفه التي يتبناها أعضاء حكومة لا تبدو متجانسة بالرغم من طيفها اليميني الفاشي.
اتباع نتنياهو سياسة إطفاء الحرائق وتجنب مواجهة تقود إلى انهيار أمني شامل في الأراضي الفلسطينية المحتلة خصوصًا في الضفة الغربية؛ يؤكد تبلور نموذج جديد للمواجهة مع الاحتلال، الذي يخضع لضغوط متزايدة من اليمين الإسرائيلي الفاشي لها تداعيات على الجوار العربي المباشر.
من ناحية أخرى، تزداد السلطة في رام الله عزلة وبُعدًا عن صناعة الحدث أو المشاركة والتأثير فيه، فهي غارقة في معارك جانبية وفي محاولات يائسة لإعادة إنتاج دورها ضمن إطار ما يعرف بمشروع الجنرال دايتون المتهالك.
إعادة إنتاج التصعيد من اليمين الفاشي واحتمالات الانفجار الأمني لا تزال حاضرة في تصاعد التوتر في سجون الاحتلال، خصوصًا بعد توارد أنباء عن احتجاز اثنين من السجانين من الأسرى في سجن مجدو، تبعه نفي سلطات السجون لدى الاحتلال ذلك بالرغم من تأكيدها اندلاع أحداث شغب في المعتقل بحسب زعمها، فالكيان يخضع لضغوط متزايدة من داخله ومن بيئته القريبة والبعيدة، ما سمَح بصياغة قواعد جديدة للاشتباك مع قطاع غزة وغرفة عملياتها المشتركة.
ختامًا.. الأوضاع في الأراضي الفلسطينية لا تزال متفجرة بالرغم من وقف إطلاق النار المعلن من الكيان والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، فالصواعق المتفجرة لا تقتصر على المسجد الأقصى وجنين ونابلس فهي موجودة في كل مكان يوجد فيه الاحتلال، وفي كل معتقل وسجن وملف سياسي وأمني واقتصادي ما يؤكد بأن المواجهة بين الاحتلال والشعب الفلسطيني باتت مفتوحة على جميع الاحتمالات التي تجعل حكومة الاحتلال في حالة استنفار واستنزاف يفاقمها غياب الإستراتيجية والرؤية الفعلية لكيفية حسم الصراع.