على مدار ثلاثين عاماً منذ 1917 إلى 1948، حقق الفلسطينيون انتصارات عدة شَهِدَ لها القاصي والداني، ومنها ما ذكره الجنرال أرنولد تالبوت ولسون: "إن خمسمائة من ثوار عرب فلسطين يعتصمون في الجبال ويقومون بحرب العصابات، لا يمكن التغلب عليهم بأقل من فرقة بريطانية كاملة السلاح والعتاد".
كذلك شهادة وزير المالية العراقي محمد رستم حيدر عام 1939: "لقد كنا في زياراتنا الماضية نتحاشى التظاهر بأننا عرب، ولكننا هذه المرة بعد جهاد عرب فلسطين وبطولتهم التي علت ذكرها آفاق أوروبا، أصبحنا نفخر بعروبتنا".
ويكفي ما حدث في الحرب العالمية الأولى، عندما صمد لواء واحد من الجيش العثماني مؤلف من ثلاثة آلاف جندي فلسطيني في وجه فرقتين بريطانيتين في غزة، وكبَّدهم الفلسطينيون خسائر فادحة وأرغموهم على التقهقر حتى العريش عام 1917، وقد أصدر القائد التركي أحمد جمال باشا (السفاح) الذي اشتهر ببغضه للعرب، بياناً رسمياً أشاد فيه بالشجاعة الفذة التي أبداها أولئك الفلسطينيون في غزة، وأنها بسالة خارقة تذكِّر بالشجاعة التي أبداها آباؤهم من قبل عندما حموا هذه البقاع المقدسة بقيادة صلاح الدين الأيوبي.
ومن أهم الأدلة الأُخرى على كفاح الفلسطينيين دفاعاً عن أرضهم قبل دخول الجيوش العربية عام 1948: الثورة الفلسطينية الأولى في 4 إبريل من عام 1920، وثورة يافا 1921، وثورة البُراق عام 1929، وثورة الكف الأخضر عام 1930، وانتفاضة عام 1933، وثورة القسام (نسبةً إلى الشيخ عز الدين القسام) عام 1935، والثورة الفلسطينية الكُبرى من 1936 إلى 1939 وما شهدته من انتفاضات وإضرابات عامة أدت إلى ثورات، كثورة الريف المُسلحة عام 1936.
كذلك نجاح الفلسطينيين في ما سُمي (حركة الجهاد الفلسطيني)؛ حيث حروب العصابات وتصديهم لعصابات الصهاينة وجيش الاحتلال في أعوام 1936، و1937، و1938، و1939. وتمكن الفلسطينيون كذلك عام 1948، قبل دخول الجيوش العربية، مِن إنزال الهزيمة باليهود المُدججين بالسلاح، وكان عدد الصهاينة وقتها يربو على 115 ألف جندي، ورغم مُساندة حكومة الانتداب لهم بالسلاح والذخيرة، إلا أن الثوار حققوا انتصارات عدة واحدة تلو الأُخرى.
ومن أمثلة ما حققه الفلسطينيون من انتصارات في 1936، ثورة الريف المُسلحة، قبل إجهاضها على يد المُستعمِر البريطاني؛ فقد شهدت الثورة في آخر معاركها سقوط نحو 678 جنديّاً من جيش العدو وعصاباته أمام 949 شهيداً فلسطينيّاً.
وشهدت في أثناء تلك الثورة، ثورة الريف، مأساة لن تمحى من التاريخ، ألا وهي قيام العصابات الصهيونية والمُستعمِر البريطاني الأبيض بهدم مدينة يافا القديمة ودكّ أسوارها ومنازلها العتيقة واستباحة دماء أهليها.
وفي ذلك يقول الشاعر:
"يافا، لقد جف دمعي فانتحبتُ دماً متى أراك، وهل في العمر من أمد؟
أمسى، وأصبح والذكرى مجددة محمولة في طوايا النفس للأبد"
واللافت أن كل تلك الانتصارات كانت قبل دخول الجيوش العربية عام 1948. فماذا حدث بعد ذلك؟
خدعة قاتلة:
والآن، لنعد إلى سؤال المقال، ولكن بصيغة أُخرى: هل كانت تلك الحرب خدعة بريطانية لعرقلة المقاومة الفلسطينية؟
بالتأكيد نعم.
الدليل على ذلك أن المُخطط البريطاني كان يسعى لتكبيل المقاومة الفلسطينية ومُحاصرتها، خصوصاً بعد ما تكبدته سلطة الانتداب والعصابات الصهيونية من خسائر فادحة على يد الفلسطينيين، فكان المُخطط البريطاني أقرب إلى الفرار منه إلى الانتصار، وأقرب إلى لوحة الشطرنج، لاعبها واحد لا خصم له؛ فقد رفعت بريطانيا الانتداب عن فلسطين ليُعلن الصهاينة دولتهم، ثم حشدت الجيوش العربية لمحاربة إسرائيل الدولة الناشئة، تحت إمرة قائد بريطاني، هو جون باغوت غلوب الشهير بـ"غلوب باشا"!
وهذا أمر غريب، فكيف ببريطانيا، وهي التي احتضنت الصهيونية، وسعت لإعلاء راية الدولة الإسرائيلية أن تقود الجيوش العربية (مصر، والأردن، وسورية، والعراق) في تحرير فلسطين!
والأدلة على أن تلك الحرب كانت خدعة بريطانية لضرب المقاومة الفلسطينية بأيدٍ عربية؛ أولاً: أبدى محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء المصري وقتها في عام 1948، قلقه من دخول الجيش المصري في تلك الحرب، خصوصاً أنه سيكون تحت قيادة جنرال بريطاني، فكيف لبريطانيا أن تُحارب شيئاً قد شيدته هي بيديها؟
ثانياً: وعدت بريطانيا النقراشي باشا بأنها ستمد الجيش المصري بالسلاح والذخيرة ليحققوا الانتصار في أرض المعركة، وقد عقّب النقراشي على حماسة الإنكليز، وقال: "إن الإنكليز متحمسون لدخولنا الحرب، وقد وعدوني بمدّ الجيش المصري بالأسلحة والذخيرة التي يحتاج إليها". وفي الأخير كانت صفقة الأسلحة الفاسدة.
ثالثاً: ما رواه جمال عبد الناصر عن تلك الحرب بأن هناك مواقع ومراكز عسكرية في فلسطين كان الجيش المصري ينسحب منها دون إطلاق رصاصة واحدة أو حتى المواجهة، حيث كانت تأتيهم الأوامر من قيادة الجيش -التي كان يرأسها جون غلوب!- بالانسحاب.
رابعاً: قام الملك عبد الله الأول، ملك الأردن، بسحب السلاح من المُناضلين الفلسطينيين، بحجة أن الجيوش العربية ستتولى هي الدفاع عن فلسطين بدلاً منهم، وأنهم غير منظمين على عكس الجيوش العربية، فهي أكثر تنظيماً، وأصدر الملك أمراً بإلغاء منظمة الجهاد المُقدس الفلسطينية، وإلغاء جيش الإنقاذ المؤلف من المتطوعين، وطلب إلغاء الهيئة العربية العليا لفلسطين.
ونتائج ذلك، أنه بعد نجاح المُخطط البريطاني في تقويض المقاومة الفلسطينية، وبعد انسحاب الجيوش العربية وعودتها إلى بلدانها، سرعان ما صار الفلسطينيون عُزلاً تحت مرمى النيران، يُقاسون عناء الحرب وحدهم، وقد حلت عليهم النكبة التي أدت إلى فقدان 1305 قرى في فلسطين؛ 774 منها سيطر الصهاينة عليها بعدما أطلقوا على أهلها النيران، و531 منها دُمِّرَت في مذابح كدير ياسين وغيرها، وفقدان أكثر من 15 ألفَ شهيد فلسطيني، وإصابة 30 ألفاً. وكان كل ذلك في سبعين مذبحة قام بها الكيان الصهيوني، وهُجّر أكثر من 780 ألف فلسطيني، وصاروا لاجئين، منهم 59% بالأردن، و24% بقطاع غزة، و17% في الضفة الغربية في أكثر من ثمانية وخمسين مخيماً بين الأردن، وسورية، ولبنان والضفة الغربية.
الخُلاصة، حرب فلسطين لم تؤتِ أُكلها؛ لأنها لم تكن في صالح فلسطين. فما كانت تلك الحرب الشؤم سوى خدعة استعمارية لإجهاض المقاومة الفلسطينية بيدَي العرب، دون أن تُلطخ بريطانيا يديها وتتكبد فوق ما خسرته خسارات وحسرات. كذلك هي ثقافة المُستعمر، يسعى بكل الطرق الملتوية لإخضاع الآخر؛ فهو حين يُبيد ويحرق، يكون وفق منظوره، فاعلاً للخير، كما قال إيفلين بارينج - الذي اشتُهر فيما بعد بـ "اللورد كرومر"- من قبل: "أياً كان الحصاد الأخلاقي الذي قد نجنيه، يظل لزاماً علينا أن نؤدي واجبَنا، وواجبُنا كما قال بولس الرسول هو ألَّا نتعب من فعل الخير".