فقدت المنظومتان الأمنية والعسكرية الصهيونيتان في السنوات الأخيرة حالة الردع أمام قوى المقاومة في قطاع غزة وجنوب لبنان، وبات الاحتلال يرزح تحت تهديد متواصل، وعلى عدة جبهات، بما فيها الجبهة الساخنة في الضفة الغربية، إذ أكدت قوى الأمن الصهيونية في الفترة الأخيرة أن قوى المحور تحاول كسر هيبة جيش الاحتلال الذي يتعرض لإشكاليات داخلية نتيجة الخلافات السياسية بين تحالف الليكود، والأحزاب الصهيونية الأخرى التي رفضت التعديلات القضائية التي أقرتها حكومة نتنياهو.
استعادة الردع ليست بالأمر السهل ضمن حسابات جيش الاحتلال، باعتبار أن إستراتيجياته قائمة على التوازن في إدارة المعارك على جميع الجبهات، إذ لا يمتلك العدو الصهيوني القدرة على خوض حرب شاملة أمام فصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله بشكل متزامن، وبالتالي فإن المعطيات التي يتداولها الاحتلال في هذه المرحلة تركز على آليات استعادة الردع، والمسارات التي تُمكّنه من إدارة المواجهة بأريحية أكثر من السابق، إذ تسعى حكومة اليمين إلى العمل بتوازٍ بين إبرام تسوية مع قوى المعارضة ومع مواصلة هجماتها ضد أعدائها في المنطقة، باعتبارها فقدت السيطرة المطلقة على ضبط الهدوء في الشارع الصهيوني الملتحم ضد رئيس الوزراء وحكومته الفاشية.
في مثل هذه الظروف تشير تقديرات المنظومة الأمنية الصهيونية إلى إمكانية تحرك الجيش تجاه الجبهة الأكثر احتدامًا، وهي الضفة الغربية، إلى جانب ذلك عدم استبعاد الساحات الأخرى، لأن الترابط الإستراتيجي الذي حدث في السنوات الأخيرة ولا سيما بعد معركة سيف القدس يؤكد أن المعركة في حال حدوثها لم تكن بالمطلق ضمن دائرة التوقعات، لأنه على ما يبدو أن الجميع قد استعد لهذه المرحلة بشكل كبير، وقد اتضحت مؤشراتها في الآونة الأخيرة التي تحالفت بها قوى المقاومة لحماية المسجد الأقصى.
إذ لا يزال يدور لدى الأذهان الآثار الكارثية للعدوان الصهيوني على لبنان في تموز 2006، وما خلفته الحرب من ضرر بالغ أصاب لبنان على كل المستويات، وعلى رأسها الجوانب الاقتصادية، حيث لا يزال الاحتلال يسيطر على حقول الغاز والثروة الطبيعية في لبنان، بما فيها "حقل كاريش" الذي أدى لتصاعد التوتر بين لبنان والاحتلال في الآونة الأخيرة، إضافة إلى ما تعرض له العدو الصهيوني من تهديد إستراتيجي، وتكبُّده أعلى معدل من الخسائر منذ احتلاله فلسطين عام 1948، وما تعرضت له الجبهة الداخلية الصهيونية من فقدان الثقة بحكومتها التي فقدت صوابها أمام حزب الله، الذي حقق تقدمًا واضحًا في مسرح العمليات، حيث استشعر الاحتلال الخسارة الأولى في تاريخه الدموي.
على الجبهات الأخرى لا تزال الضفة في أوج موجات المقاومة بشكلها المنظم والفردي، ولا يزال هناك تآكل في حالة الردع الصهيوني، الذي أعاد خريطته العسكرية في مدن الضفة بعد تعزيز انتشار الجيش على الحواجز العسكرية، ومواصلته عملياته الميدانية التي تستهدف المقاومين من كل الفصائل، إذ أكد الاحتلال أن هناك دوافع لتنفيذ الفلسطينيين عمليات فردية ومنظمة، لكن لم تستطع منظومة الأمن تحديد أبرز تلك الدوافع، باعتبار أن منفذي العمليات الفردية لم تربطهم أي صلة مسبقًا بفصائل فلسطينية، الأمر الذي سيُبقي ساحة الضفة في اشتعال دائم أمام الاحتلال، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى تتعلق بالاتفاقات الأمنية بين السلطة والعدو الصهيوني.
على المستوى الآخر، تُعد غزة في نظر الاحتلال ساحة مفتوحة للقتال، بالرغم من حالة الهدوء السائدة في الأشهر الماضية، إذ إن الحكومة الصهيونية تحاول تسكين تلك الجبهة من خلال الدفع بالعجلة الاقتصادية لسكان القطاع، والعمل ضمن رؤية سياسية بالتوافق مع الوسطاء لتثبيت حالة الهدوء، باعتبار أن الاحتلال يرى ذلك إنجازًا سياسيًا يُسجل له في قطاع غزة، بعد تعرض الاحتلال للكثير من الخسائر في جولات القتال الأخيرة، وأبرزها معركة سيف القدس، التي انتصرت بها الإرادة الفلسطينية وردعت جيش العدو ومنظوماته السياسية والأمنية.
في المقابل لا تزال حكومة العدو الصهيوني تبحث عن استعادة الردع، للكثير من الأسباب، أهمها الحفاظ على المشاريع الصهيونية في القدس، ومواصلة الاحتلال التقسيم المكاني والزماني للمسجد الأقصى، وبذل الاحتلال عدة محاولات للفصل بين ساحات المقاومة، وتفكيك الخلايا العسكرية في الضفة الغربية تدريجيا، وفق إستراتيجية تحقق له تطلعاته المستقبلية.