أحيا الإيرلنديون هذا الشهر الذكرى الخامسة والعشرين لاتفاقية "الجمعة العظيمة"، التي أنهت أكثر من ثلاثة عقود من العنف والصراع في إيرلندا الشمالية، الناجم عن الاستعمار الكولونيالي البريطاني. وهو صراع يمتدُّ إلى خمسة قرون من الاستعمار الاستيطاني البريطاني للجزيرة. وقد حضر للاحتفال بالذكرى، رئيسا الدولتين الإمبرياليتين، الأميركية والبريطانية السابقين، بيل كلنتون وتوني بلير، اللذين رعيا الاتفاق في حينه بعد أن عجزت بريطانيا عن هزيمة الثورة الإيرلندية.
وبما أن التجربة الثورية التحررية الإيرلندية البطولية ضد الكولونيالية البريطانية الوحشية، تحتل مكانا خاصا في قلوبنا وعقولنا كفلسطينيين، وفي قلوب وعقول أحرار العالم بالطبع، والتي أجبرت بريطانيا على الانسحاب من معظم الأراضي الإيرلندية عام 1922، ودفعتها إلى الموافقة على التوقيع على اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998، وتفكك النظام العنصري الكولونيالي في إقليم الشمال؛ فقد حاولتُ متابعة النقاش المحتدم الجاري في المجتمع الإيرلندي، وبين القوى السياسية، عبر الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، حول هذا الاتفاق وآفاقه المستقبلية. ومتابعتي تأتي كجزء من الاهتمام الفلسطيني العام بنضال الشعب الإيرلندي، خصوصا وأن هذا الشعب، وتحديدا قواها السياسية التقدمية، لا يزال ملتزما أخلاقيا بمبدأ التضامن المشترك، بل إن هذه التجربة التحررية التي لا تزال مستمرة، مصدر إلهام لكل أحرار العالم.
لقد ارتبطت هذه التجربة، كما التجربة الجنوب إفريقية، بالتجربة الفلسطينية، باعتبار أنها تشكل كلها تجارب تحررية من استعمار كولونيالي ونظام أبرتهايد قادته الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية في أرجاء الكرة الأرضية. وتابعنا، نحن الفلسطينيون، حركات الشعوب وقواها الثورية في هذين البلدين بشكل خاص، وقد ارتبطت منظمة التحرير الفلسطينية منذ ستينيات القرن الماضي بعلاقات سياسية وإيديولوجية وكفاحية مع الحركة الثورية في كل من البلدين.
وكان لافتا أن العقد الأخير من القرن الماضي شهد توقيع اتفاقيات ثلاث سعت إلى إنهاء الاستعمار والأبرتهايد، في فلسطين وجنوب إفريقيا وإيرلندا، بفارق سنوات قليلة. فجنوب إفريقيا تحررت سياسيا عام 1994 من نظام الأبرتهايد، وإن كانت لا تزال ترزح تحت نظام أبرتهايد اقتصادي، وما ولده من مشاكل اقتصادية واجتماعية عميقة. وفي إيرلندا الشمالية جرى توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998، الذي أدى إلى إنشاء نظام سياسي تشاركي ديمقراطي، أي دولة المواطنين، بديلا عن النظام البروتستانتي المغلق، الذي كان يضطهد الأقلية القومية الكاثوليكية تحت الهيمنة البريطانية. أما فلسطين، فقد سبقت البلدين الآخرين، حيث جرى توقيع اتفاقية أوسلو في أيلول/ سبتمبر عام 1993، التي كرست المشروع الاستعماري الصهيوني.
ويمكن ملاحظة أن فترة المفاوضات التي دارت بين القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير و(إسرائيل)، أوائل التسعينيات، كانت قصيرة مقارنة بالسنوات الطويلة التي استغرقتها المفاوضات بين القيادتين الإيرلندية والجنوب إفريقية مع أعدائهما. وفي حين حظيت الاتفاقيتين من خلال استفتاء عام، في إيرلندا وجنوب إفريقيا، بتأييد غالبية الشعبين نظرا لما حققتاه من إنجازات، وفتحت الطريق لاستمرار العمل والنضال من أجل تحقيق كامل الأهداف؛ فإن اتفاقية أوسلو شكلت ولا تزال كارثة حقيقية للشعب الفلسطيني، إذ أغلقت رسميًّا باب المقاومة. لقد كانت القيادة الفلسطينية متسرعة وفاقدة للبصيرة، وقد فكرت بالنجاة الذاتية، أكثر مما فكرت بنجاة شعبها، مقابل تنازلها عن معظم الوطن، وتراجعها عن أهم الثوابت الفلسطينية، وخاصة قضية اللاجئين وحقهم بالعودة، كما أسقطت مرتكزات أخلاقية أساسية للنضال التي تُعرّف قضية فلسطين كقضية تحرر وطني من نظام استعماري كولونيالي، وأن النضال ضده الذي خاضه شعب فلسطين على مدار مئة عام، هو نضال أخلاقي شرعي وليس إرهابا.
وهذا على خلاف سلوك قيادة الحركة الثورية الإيرلندية، بجناحيها السياسي والعسكري، "الشين فين" و"الجيش الجمهوري"، التي لم تُدن النضال العسكري، بل فرضت في الاتفاق بندا ينص على حق الشعب الإيرلندي، سواء في جمهورية إيرلندا الحرة أو إيرلندا الشمالية، في مواصلة النضال السياسي لاستعادة وحدة الجزيرة وتحرير الجزء الشمالي من التاج البريطاني، من خلال إجراء استفتاء في الظروف المناسبة.
طبعا مثل أي تجربة لأي شعب لا تحظى أي اتفاقية نهائية أو مرحلية مع العدو بالإجماع، وتظل هناك معارضة من مجموعات راديكالية صغيرة، سواء من معسكر العدو أو من معسكر الثورة. وكان هناك من عارض الاتفاق منذ اليوم الأول، كمجموعات ماركسية ويسارية متشددة. وبسبب اشتداد الأزمة الحكومية مؤخرا في إيرلندا الشمالية على خلفية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولأسباب داخلية مثل عدم حصول الاستفتاء حتى الآن، يشتد النقاش والجدل بين من يريد الاستعجال به ومن يفضل أن يتم من خلال أوسع موافقة خاصة من الاتحاديين، الذين يدافعون عن البقاء في إطار المملكة البريطانية المتحدة، وذلك لتجنب انفجار التوترات الطائفية والقومية مرة أخرى.
غير أن الرأي السائد يقول إن الاتفاق على الرغم من الأزمة التي تعصف بالحكومة الإيرلندية، شكل ولا يزال إنجازا تاريخيا نقل إيرلندا من مرحلة إلى أخرى، واحتوى العنف الطائفي، واستبدل العنف بالنضال السياسي. ويرى العديد من المراقبين بأن التغيير الديمغرافي، أي ظهور جيل جديد يميل للتصويت على أساس سياسي لا على أساس مذهبي، وكذلك زيادة القوة السياسية للقوى السياسية ذات التوجهات الوحدوية، ستُحدث التغيير الموعود، خصوصًا وأن حزب "الشين فين" حقق إنجازات انتخابية مبهرة. ففي الانتخابات التي جرت في عام 2020، وفي عام 2022، حصد "الشين فين" في جمهورية إيرلندا الجنوبية المرتبة الأولى، وفي شمال إيرلندا بات القوة الثانية.
وعودة إلى أداء القيادة الفلسطينية في المفاوضات التي انتهت باتفاق أوسلو، نستطيع أن نشهد الفارق الهائل، وكيف أن هذه القيادة تخلت عن كل شيء، مكتفية وقانعة بسلطة مكبلة تابعة وفاسدة، في جزء بسيط من الأرض المحتلة عام 1967، بحيث لم تعد قيادتها تمتلك الإرادة ولا الجرأة في التحرر من قيوده.
لقد قبلت سلطة أوسلو بكيان في جزء صغير من فلسطين، ليس هذا فحسب، بل تواصل تغييب فلسطين من البحر إلى النهر في خطابها الرسمي والإعلامي، في حين تواصل القيادة الثورية الإيرلندية التمسك بتحرير كل الوطن، عبر منابرها الإعلامية والثقافية والتعليمية، وفي البرلمان، وفي المفاوضات، وترسخ ذلك في وعي الناس، تمهيدًا للمعركة الفاصلة التي تجري منذ ربع قرن بالوسائل الناعمة، المؤثرة والقوية، وانتظارا للاستفتاء الذي سيحصد النتيجة، ربما بعد سنوات أو عقد. وتعتبر إيرلندا حتى اليوم، أكثر دولة أوروبية مناصرة للحق الفلسطيني وللنضال الوطني الذي يخوضه شعب فلسطين، بل إن خطاب قيادات القوى الثورية الإيرلندية أكثر صلابة ومبدئية تجاه إسرائيل من خطاب قيادة أوسلو.
ولكن في مواجهة كارثة أوسلو الذي مر عليها ثلاثة عقود ترسخ خلالها المشروع الاستعماري الاستيطاني ونظام الأبرتهايد، تشهد فلسطين على المستوى الشعبي خاصةً في العقد الأخير نهوضا وطنيا، يتجلى في المقاومة الفعلية بأشكالها المختلفة، ووعيا وطنيا يستعيد بالوعي بفلسطين الواحدة متجاوزا التجزئة والطمس. وهكذا يلتقي هذا النهوض الشعبي الفلسطيني مع مسار التجربة الثورية الإيرلندية، التي تمضي رغم الصعوبات والتحديات الكبيرة نحو الغاية النهائية.