شهدت الحدود بين لبنان وشمال فلسطين، منذ حرب تموز بين (إسرائيل) وحزب الله 2006، هدوءًا طويلًا، ليس بسبب أن أيًّا من الطرفين لم يحقّق فوزًا عسكريًّا، بل لأن كلًا منهما لديه القوة لإيذاء الطرف الآخر، الأمر الذي أوجد توازن الردع.
كان الوضع في جنوب فلسطين مشابهًا، رغم أن ميزان الردع ليس بالمتانة والاستمرارية نفسيهما. توصلت (إسرائيل) وحركة حماس إلى تفاهم يُشار إليه غالبا بـ "الهدوء مقابل الهدوء"، فطالما لم يهاجم أحدُ الجانبيْن الآخر، ظلت الحدود مع غزة هادئة أكثر من عقد باستثناء العدوان الإسرائيلي عامي 2018 و2021. أما الحدود مع سوريا، فقد شهدت منذ حرب 1973 امتناعا من النظام السوري، في حين استمرت (إسرائيل) في الهجوم على مواقع سورية، بحجة أنها تشكّل إمدادات عسكرية إيرانية.
ورغم ذلك كله، نتج عن الهجوم الأمني الوحشي الإسرائيلي ضد المصلين المسلمين في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك تغيير غير مسبوق، فقد وجدت (إسرائيل) نفسها، وبصورة متزامنة، تتعرّض للهجوم، ليس فقط من الشمال والجنوب، ولكن حتى على الجبهة السورية المشهود لها بالهدوء منذ عقود. من بين 30 صاروخا تم إطلاقها على شمال الاحتلال، تم اعتراض 25 صاروخا بواسطة صواريخ باتريوت للدفاع الجوي الأميركية الصنع، وتسببت الصواريخ الخمسة التي سقطت على أراضي شمال فلسطين بأضرار وإصابات من دون وفيات. حسب ما قالت (إسرائيل). وسقطت عدة صواريخ أُطلقت من سوريا على مرتفعات الجولان من دون إحداث أي أضرار، كما أطلقت صواريخ من غزّة ولم تتسبب بأضرار.
لم تكن تلك الهجمات طويلة ولا فعّالة، لكن الرسالة كانت واضحة: ما يحدث في الأقصى، وعلى الرغم من التفاهمات المختلفة، فإن الجماعات الفلسطينية، تابعة لمنظمة التحرير أو حركة حماس، في الداخل والخارج، لن تقبل بدون رد على العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في أولى القبلتين وثالث الحرمين. وفي حين أن الهجوم المتزامن ومن ثلاث جبهات لم يتسبّب في أضرار كبيرة أو خسائر في الأرواح، إلا أن عدة هجمات في الأغوار وفي (تل أبيب) كانت مؤثّرة. وفي مجمل تلك الأعمال، كان واضحا أن الفلسطينيين والعرب القريبين لن يقفوا صامتين، لأن إخوانهم الفلسطينيين تحت الاحتلال يتعرّضون للمضايقة والضرب وتدنيس أماكنهم المقدّسة.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لفهم هذه الرسالة، فرغم أن حكومة نتنياهو مليئة بالمتطرّفين اليمينيين العنصريين، إلا أن الهجمات الثلاثية والهجمات المميتة على المستوطنين في غور الأردن وتل أبيب، جلبت نتائج، فقد أدركت (إسرائيل) أن عليها وقف التصعيد في المسجد الأقصى والقدس.
وعلى الرغم من استمرار الخطاب الإسرائيلي المعادي، وحتى المطالبة بأن "يأمر" الأردن المصلين المسلمين بالامتناع عن شعائر "الاعتكاف" في المسجد الأقصى، إلا أن قوى الأمن الإسرائيلي، في النهاية، توقفت عن محاولات إبعاد المصليين جسديا، وسُمح للمسلمين الاستمرار في ممارسة شعائرهم خلال شهر رمضان، من دون اعتداءات أو اقتحام أمني إسرائيلي.
لم يكن ما حدث في المسجد الأقصى مفاجئا لأحد، كان هدف خفض التصعيد بالضبط ما كانت الأردن ومصر والولايات المتحدة قد طالبت به من (إسرائيل) والفلسطينيين، ومعروف أنه ليس للحكومة الفلسطينية أي سيطرة تُذكر على ما يفعله المصلون في القدس، حيث تخضع القدس بالكامل للسيطرة الأمنية الإسرائيلية. ولذلك كان من الواضح أن التصعيد كان عملًا فقط من الإسرائيليين، بتحريض من وزراء متطرّفين عنصريين، مثل وزيري الأمن إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش.
يعدّ قرار (إسرائيل) المتأخر بالامتناع عن مزيد من العنف لطرد المصلين من المسجد الأقصى تطورا جديدا، ويعكس بداية توازن للردع يشبه، إلى حد كبير، التفاهمات التي جرى التوصل إليها مع الجماعات المسلحة في لبنان وغزّة. وفي حين أن مثل هذه التفاهمات يمكن أن تستمرّ بعض الوقت، إلا أنها ليست بديلا عن عملية سياسية واتفاق أقوى بكثير مع الفلسطينيين، ومع الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة، دولة كانت أو حركات تحرّر. وقد جرى الكشف عن الاعتداء الإسرائيلي العنيف ضد المصلين من خلال مقاطع فيديو وصور عديدة انتشرت على نطاق واسع. ومن الواضح أن ما حدث يعكس مركزية القدس وجوهرة تاجها، المسجد الأقصى وصمود شعبها.
قد يعتقد المرء أن المسؤولين الإسرائيليين في هذه المواقع الحساسة يتعلمون، بعد عقود من السيطرة على المدينة المقدّسة، الدرس، ويتّخذون خطوات وقائية لعدم التصعيد. ولكن دوافع التصعيد كانت سياسية من بعض المتطرّفين في حكومة الاحتلال، والذين خلفهم، فقد أصيب هؤلاء بردة فعل قوية، مما يظهر أن الدبلوماسية الهادئة، حتى من الولايات المتحدة والأردن، ليس لها التأثير نفسه الذي يمكن أن يُحدثه السكان الصامدون وإخوانهم الفلسطينيون والعرب في إيجاد توازن الردع. وهو توازن مفيد باعتباره حلا مؤقتا، إلا أن هناك حاجة ماسّة إلى خطوات ملموسة لضمان عدم تكرار العنف الإسرائيلي القبيح الذي شاهده الجميع في المسجد الأقصى، وهذا يتطلب اتفاقيات ملزمة مشروطة بآليات عقابية فعّالة.