ترعرع منذ نعومة أظافره في كنف عائلة تعيش فلسطين والمسجد الأقصى داخل قلوبهم، تربّى في مساجد اللد، ولم يتخلّف عن أيّ نداء استغاثة من المسجد، تعرَّض للاعتقال والإبعاد من شرطة الاحتلال إثر اعتكافه بالأقصى خلال "عدوان الفصح"، فعاش المرابط حمزة إبراهيم أبو غانم (25 عامًا) داخل المساجد وقُتل على عتباتها.
بعدما انتهى من إحياء ليلته في أحد مساجد اللد ليلة 23 رمضان، وأثناء عودته من صلاة الفجر إلى بيته، انهالت على جسده 28 رصاصة غادرة، أصابت جسده ست منها أمام مرأى ومسمع زوجته الحامل، لتعيش على وقع جريمة لا يمكن فصلها عن أحداث اعتداء الاحتلال على المعتكفين بالمسجد الأقصى.
على صفحته على "فيس بوك" يمتلئ حساب حمزة بمنشورات عبّر فيها عن هذا الحب، فيضع صورة شخصية وهو يستلقي في باحات الأقصى ويظهر بالصورة المصلى القبلي وأرفق معها نصًّا انبعثت كلماته من قلبه: "لا سعادة تعادل راحة الأقصى".
"قف شامخًا مثل المآذن طولًا" هذا ما كتبه في منشور آخر، كان الأقصى ملاذ الشاب فقال: "أقصانا، المكان الذي يُهوّن علينا مصائب الدنيا"، وكتب هنا: "لن يدخل جنة الأقصى إلا من ذاق هواه وعرفه، فكم من عاشق صلى بقلبه والجسد يحترق شوقًا".
في صورة له بعد هبة باب الرحمة، نشر على حسابه منشورًا أرفق فيه صورة له بملامح المنتصر قائلًا: "دأبنا أن نبتلى وعهدنا أن لا نميل" وحدد مكان التقاط الصورة قائلًا في نهاية المنشور: "من داخل عرين أصحاب السيادة المقدسية، مصلى باب الرحمة".
نداء حاضر
لا يذكر الحقوقي من مدينة اللد خالد زبارقة، تخلُّف حمزة عن أيّ نداء ونفير لشدّ الرحال للمسجد الأقصى، كان اللقاء الأخير بينهما عندما حضر زبارقة لمركز التحقيق بالقدس المحتلة لمتابعة قضية اعتقال شرطة الاحتلال لنحو 450 مرابطًا ومعتكفًا بالمسجد الأقصى، وكان من بينهم المعتكف أبو غانم.
اقرأ أيضًا: "حمادة" ينعى الشاب المرابط في المسجد الأقصى حمزة أبو غانم
يستذكر زبارقة في حديثه لصحيفة "فلسطين"، أنّ أبو غانم خرج من مركز التحقيق تعلو الابتسامة وجهه بعد ليلة دامية شهدها المسجد الأقصى فجرت الأوضاع الأمنية على مستوى فلسطين، فرغم التنكيل والضرب والتعذيب وتقييد الأيدي للخلف إلا أنه خرج مبتسمًا تنطلق ضحكته مستهزئًا كعادته بإجراءات الاحتلال.
سلم الاحتلال أبو غانم وبقية الشباب أوامر إبعاد عن الأقصى لمدة أسبوع على أن يجدد إبعادهم لفترة أطول بعد ذلك، لكن أبو غانم لم يذعن للقرار، فتحدّى أوامر الإبعاد ودخل الأقصى بالرغم من تلك القرارات كعادته، لأنّ "ارتباطه بالأقصى كان ارتباطًا وثيقًا عقائديًّا" يقول زبارقة.
لم يكن أبو غانم يكسر قرارات وأوامر الإبعاد والدخول للأقصى، بل كان يحث الشباب على عدم الانصياع لها، في رسالة صوتية نشرت له بعد اغتياله، كان يدفع أحد الشباب لعدم الإذعان للاحتلال، قائلًا بنبرة تحدٍّ وشموخ: "هذا مسجدنا، نحن نقرر ولا يقررون لنا".
ووجّهت اللجان الشعبية بمدينة اللد اتهاماتها إلى دولة الاحتلال وأذرعها المخابراتية، سواء بشكل مباشر من خلال فرق القتل التابعة لدولة الاحتلال أو بشكل غير مباشر بتنفيذها على يد عملاء.
أبو غانم شاب عرف ببساطته ولكن بتأثيره وحضوره بين جيل شباب اللد لديه مشروع خاص بتجارة الأبواب، متزوج منذ عامين، وكان يستعد لاستقبال مولوده الأول.
توجيه البوصلة
عندما عقد قرانه، أصر على إشهاره بالمسجد الأقصى، ليكون نواة لحبٍّ في قلب حب أكبر، ويرتبط بشريكةِ حياته من داخل ساحاتٍ ارتبط فيها الشاب منذ سنوات، لتسكن زوجته في قلب شابٍّ يسكن الوطن فيه.
ورغم بساطته إلا أنه كان شخصية شبابية مؤثرة، استطاع إعادة بوصلة شباب اللد الذين أشغلتهم الحياة نحو المسجد الأقصى، عُرف عنه أنه دائمًا يحثُّ الشباب على شدّ الرحال إلى الأقصى، يربط زبارقة بين اغتياله و"عدوان الفصح": "واضح أنّ الاعتكاف الذي حدث بما يسمى عيد "الفصح العبري" أفشل مخططًا إسرائيليًّا كبيرًا كانوا يسعون لتمريره".
عن حضوره في مدينة اللد، يصفه زبارقة: "بأنه شاب فاعل ولديه نفَس وطني، محبوب بين الشباب ولديه حضور قوي بينهم وكانوا يستجيبون له عندما يقوم بحثّهم على شد الرحال.
في مايو/ أيار 2021، اندلعت مواجهات بين أهالي اللد الذين هبّوا للدفاع عن مسجدهم الكبير، وبين المستوطنين وشرطة الاحتلال الذين اعتدوا عليهم، كان لحمزة دور في حماية المسجد "العمري" الكبير بمدينة اللد.
غسان منيّر يسكن بالقرب من المسجد "العمري"، تعرف على أبو غانم خلال تلك المواجهات التي عرفت باسم هبة "الكرامة" وكان الشاب أحد أبطالها، تحتفظ ذاكرة منيّر بأحداث دوّنت أيضًا على صفحات التاريخ، يسترجع أحداثها لصحيفة "فلسطين": "حمزة من الشباب الذين قاوموا المستوطنين عندما هاجمت قطعانهم البيوت وحاولوا حرقها والتهجم على الأحياء العربية، وكان ممن تصدّى لهم".
طوال أحداث المواجهات، لم يغادر أبو غانم المسجد وكان يُرابط فيه على مدار الوقت، وكان ينام هو ومن معه على سطح المسجد يراقب أيّ تحركات من قطعان المستوطنين وتسلُّلهم المفاجئ في الليل.
تستحضر ذاكرة منيّر بقية التفاصيل: "لم يغادر هؤلاء الشباب المسجد، كانوا على مدار الوقت يتواجدون بصورة دائمة على مدار أسبوعين، وهذا ما يؤكد أنه كان رجلًا معروفًا بوطنيته وتديُّنه ورباطه ولا علاقة له بعالم الجريمة".