فلسطين أون لاين

رواسخ

الصيام وتجديد الإيمان بالغيب

قضية الإيمان بالغيب قضية مركزية في التصور الإسلامي، وأركان الإيمان كلها غيب، ولهذا بدأت سورة البقرة بالتركيز عليها وخُتمت كذلك بالتأكيد عليها، وفي ثنايا السورة تم الحديث عن أركان الإسلام ومنظومته التشريعية، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.    

وإن من أهم مقاصد الصيام ومعانيه العودة إلى مركزية الإيمان بالغيب في التصور الإسلامي؛ واستعادة التوازن بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين ما غاب عنا وما نشهده بأعيننا، فالصيام يجدد الإيمان بالغيب في نفس الصائم.

التحقق بالتقوى

حدَّد القرآن الكريم القصد الأعظم من الصيام في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والتقوى هي: استشعار معنى المراقبة لله عز وجل في الصيام، وقد رفع الله قدر الصيام من بين سائر أركان الإسلام فقال في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، وذلك لأنه عبادة سرية خفية لا يطلع على الصائم فيها إلا المولى سبحانه وتعالى، فالصائم يخشى الله ويدرك أنه يراه فلا يأكل ولا يشرب ولا يقترب من زوجته طاعة ومحبة وخشية لله، وطمعا فيما وعده به في عالم الغيب الأخروي قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ".

وقد حدثني شاب يعمل مهندسا في شركة ألمانية كبرى، لاحظتْ رئيسته في العمل أن معدل إنتاجه يرتفع في شهر واحد على مدار العام لسنتين متتابعتين، ولمّا سألَته، وفكّر طويلا وانتبه إلى أن هذا الشهر في السنتين هو شهر رمضان وشرح لها عبادة الصيام. فردَّت زيادة معدل الإنتاج إلى عدم الأكل والشرب والذهاب للخلاء وإنفاق الوقت في العمل، فقال لها: لا، السبب أني أعيش بمعنى أن الله يراني وأنا صائم ويراني وأنا أعمل فأخاف على صيامي فأجوِّد عملي وأحاسب نفسي على الدقيقة وأخاف أن أكسب مالا من حرام بسبب التقصير في العمل. 

التوجيه النبوي للشباب العاجز

في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: قَال لنَا رَسولُ اللَّهِ ﷺ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ. والعلاقة بين الصيام وبين كسر الشهوة لدى الشباب وأداء الصيام لوظيفة الزواج هي: أن الصوم يرفع منسوب المراقبة لله عز وجل عند الشاب فيراقب نظراته وأفكاره فتسكن غريزته وتتراجع شهوته حتى ييسر الله له سبيل الزواج، فالصوم يصبره على ما أعده الله له إن غض بصره وحفظ فرجه، وكل ذلك غيب غير مشهود للمكلف.

ليلة القدر والتعبد فيها

يحرص المسلمون على تحري ليلة القدر والاجتهاد في العبادة فيها، وأكثر ما يظهر هذا التحري في ليلة 27 من رمضان، وذلك لأن الله تعالى عظَّم ليلة القدر وقال عنها: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}. فعموم المسلمين يتحرون ليلة القدر إيمانا منهم بغيب لم يشاهدوه، فلم يروا تنزل الملائكة أو تقسيم الأرزاق وإنزال الأحداث من اللوح المحفوظ، وهذا انتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ومن الظاهر إلى الباطن.

ترك الشهوة والمتعة العاجلة المحسوسة المشهودة اختيارا، طلبا وأملا في الفوز بالمغفرة والعتق من النيران في الآخرة، وهو أمر غيبي. فالصائم يترك الطعام والشراب والشهوة، وهي أمور مباحة محسوسة ويصبر عليها طوال شهر رمضان خشية لله بالغيب، ينتظر فرحته الصغرى في الدنيا يوم العيد وفرحته الكبرى يوم القيامة، وكل ذلك غيب.

دعوة الصائم عند فطره

يحرص المسلم الصائم على الدعاء عند فطره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشَّره بأن دعوته عند الفطر لا ترد؛ والدعاء إيمان بالله عز وجل بأنه سميع بصير قادر، يسمع دعاء ونداء من ناداه وقادر على تحقيق وإجابة من سألوه، وبقدر إيمان الداعي بالغيب يكون افتقاره واضطراره في الدعاء وتلذذه بالمناجاة، وبقدر ضعف وفتور إيمانه بالغيب يقل دعاؤه ولا يظهر افتقاره.

واليقين الغيبي في بلوغ الدعاء عنان السماء هو الذي يحمل الداعي على الاستمرار فيه وإن لم يجد إجابته مشهودة في الدنيا كما يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: "لا يَكُنْ تأَخُّرُ أَمَدِ العَطاءِ مَعَ الإلْحاحِ في الدُّعاءِ مُوْجِباً لِيأْسِكَ. فَهُوَ ضَمِنَ لَكَ الإِجابةَ فيما يَخْتارُهُ لَكَ لا فيما تَخْتارُهُ لِنَفْسِكَ. وَفي الوَقْتِ الَّذي يُريدُ لا فِي الوَقْتِ الَّذي تُرْيدُ".