يبدو أن الحكومة الصهيونية الحالية ما زالت سادرة في غيها رغم كل الانتقادات التي وجهت وتوجه لها من قبل المجتمع الدولي، وإن كان هذا الانتقاد يأتي على استحياء لا سيما من الدول الغربية التي ما زالت توفر غطاءً دبلوماسيًّا وقانونيًّا للكيان الصهيوني، وترفض باستمرار إدانة الاستيطان في مجلس الأمن على الرغم من الفجاجة والوقاحة التي تصدر بين الفينة والأخرى من أعضاء هذه الحكومة ضد ما يعدونه "تدخلات في الشأن الداخلي الإسرائيلي" من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية لدى انتقادها للاستيطان.
في عام 1990 حينما انطلق مؤتمر مدريد للسلام برعاية الولايات المتحدة "والاتحاد السوفيتي" في حينه، كان انعقاد المؤتمر تحت شعار الأرض مقابل السلام؛ أي إن العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً سيمنحون "إسرائيل" السلام مقابل أن تتخلى عن جزء من الأرض التي احتلتها، وهي أراضي عام 1967، ورغم أن الشعار بحد ذاته يشكل معضلة إذ إن الأرض هي أصلاً أرض الفلسطينيين ومن ثم عدها منحة من "إسرائيل" للفلسطينيين مقابل أن تعيش بسلام فيه تجني على حقائق التاريخ والجغرافيا، ورغم هذا الميل الواضح من قبل العرب والفلسطينيين للتسليم بالأمر الواقع الذي فرضته إسرائيل على الأراضي طوال مدة احتلالها للأرض الفلسطينية، فإن "إسرائيل" عملت منذ اليوم الأول لمؤتمر مدريد -الذي ذهبت إليه راغمة وليست راغبة- عمدت إلى تكثيف وتسريع عملية الاستيطان وهي تعلم يقينًا أن كل حجر يدق في الأرض يسرع في القضاء على حل الدولتين الذي قامت عليه عملية السلام ككل، واستمر الأمر على هذا النحو إلى أن وصل اليوم عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى 726 ألف مستوطن تقريبًا موزعين على 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية، وذلك وفقًا لإحصائيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لعام 2022.
ورغم هذا العدد الهائل من المستوطنين القاطنين الآن في الضفة الغربية فإن الحكومة الصهيونية الجديدة المتطرفة تعتبر أن هذا العدد غير كافٍ البتة، بل وتعتبر أن كل أراضي الضفة الغربية هي أراضٍ إسرائيلية ينبغي ألا يترك شبر واحد فيها يمكن أن يستفيد منه الفلسطينيون، وقد توجت هذه الحكومة الفاشية توجهها هذا من خلال المسيرة التي نظمتها جمعية استيطانية للتوجه إلى مستوطنة "أفيتار" على جبل صبيح، إذ شارك في هذه المسيرة سبعة وزراء إسرائيليين وعشرون عضو كنيست، بما يؤشر بوضوح إلى مدى إصرار الثلاثي: نتنياهو وسموتيريش وبن غفير على المضي قدماً في هذا المسار.
وإزاء كل هذه التطورات وفي ظل وأد "عملية السلام" تماماً يبدو جلياً أن حل الدولتين أصبح جزءًا من التاريخ، إذ إن إمكانية تحقيقه عمليا على الأرض شبه مستحيلة، ناهيك بإسقاطه سياسياً من أجندة الحكومة الصهيونية الحالية بشكل علني وما سبقها من حكومات بشكل خفي.
حل الدولتين وإن كان مقبولاً من منظمة التحرير باعتبارها وافقت على القرار 242 الذي صدر عقب حرب 1967، إلا أنه لم يلقَ أي قبول من فصائل المقاومة التي ما زالت تتشبث بكامل فلسطين من بحرها إلى نهرها ومن شمالها إلى جنوبها، وترفض التنازل عن أي شبر فيها، وهذا الموقف تعده من الثوابت التي لا يمكن المساومة حولها، ومن الناحية النظرية قد يتسق هذا التوجه مع حل الدولة الواحدة الذي أصبح يطرح كثيرا موخراً ، خصوصًا مع فشل أو إفشال حل الدولتين من قبل الحكومات الصهيونية المتعاقبة بمختلف توجهاتها، باعتبار أن الأرض لن تقسم وستبقى رقعة واحدة من بحرها لنهرها ومن شمالها لجنوبها ليعيش عليها الفلسطينيون إضافة لمن يرغب بالبقاء من اليهود، ولكن القضية لا تقف عند وحدة الأرض فقط، وتبقى قضية اللاجئين والمشردين وحق العودة الذي يعتبره الفلسطينيون حقاً مقدساً غير قابل للتصرف، وهذا يعني التفوق الديموغرافي للشعب الفلسطيني بكل ما يعنيه من هيمنة وسيطرة على مقاليد الدولة، الأمر الذي يعني بلا جدال زوال المشروع الصهيوني عن الأرض الفلسطينية، وهذه حقيقة تدركها "إسرائيل" جيداً، وهي بالتأكيد لا تسعى إليها، ولكن لو طرحت الفكرة مجردة من المقاومة الفلسطينية فهل يمكن للمجتمع الدولي أن يتعامل مع الفكرة على أنها مبادرة يمكن البناء عليها، أم أن بقاء المشروع الصهيوني واستمراره والحفاظ عليه هو الأولوية للولايات المتحدة والغرب عموماً؟ الجواب هو نعم بالتأكيد والدليل على ذلك أن الرئيس الأمريكي بايدن يعلن ذلك صراحة لدى تبنيه حل الدولتين حينما يصرح أن هذا الحل هو الذي يضمن بقاء واستمرار "إسرائيل"، بمعنى أن حل الدولتين يُطرح من أجل مستقبل "إسرائيل" وليس حرصًا على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
ولكن في نفس الوقت هل يمكن لفصائل المقاومة أن تقدم على طرح مبادرة حل الدولة الواحدة على أساس المواطنة الكاملة لإلقاء الكرة في ملعب المجتمع الدولي ووضعه أمام مسؤولياته؟ ربما قليل من المناورة السياسية يفيد أحيانًا.