أتوقف كثيرا مع حديث سيدنا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، أن رجلين قدما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهد منهما، فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة إذ أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجعا إليّ فقالا لي: ارجع، فإنه لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ (...) أليس قد مكث هذا بعده سنة، وأدرك رمضان؟ (...) قال صلى الله عليه وسلم: "فما بينهما أبعد ما بين السماء والأرض".
وأتأمل قوله صلى الله عليه وسلم، وأقول في نفسي: هل يمكن أن يبلغ هذه المنزلة لصيامه وقيامه فقط، أو للمعاني التي يغرسها الصيام والقيام في قلبه وروحه؟ تلك المعاني المفقودة والغائبة في صيام كثير منا اليوم، بكل أسف، وهو ما حذرنا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع فيه، ففي حديث أبي هريرة "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر".
ومن معاني الصيام التي فقدناها -إلا قليلا- وتجب استعادتها ما يأتي:
التزكية والتطهير
كان بعض الصحابة إذا دخل شهر رمضان يقول مرحبا بمُطَهِّرنا، فهدف الصيام -كما هدف سائر العبادات- التزكية والتطهير للقلب والنفس، والفائز بحق في رمضان هو من تغير قلبه فيه، ووفقه الله لمحو الران الذي كساه على مدار العام بسبب الذنوب والمعاصي، إن الصلاة والصيام والقيام وتلاوة القرآن في رمضان لا بد أن تثمر حياة لقلوبنا.
سيطرة الجسد على الروح
فرض الله علينا الصيام لنتدرب على مقاومة شهواتنا وغرائزنا، وينبغي لمن وعى هذا المعنى أن يقتصد في طعامه وشرابه في رمضان، وأن يكون أقل الشهور إنفاقا على الطعام فيه، والواقع أننا نصوم طويلا ونأكل كثيرا، فيحضر الطعام ويغيب الصيام، ونصبح أمام حالة معكوسة للصيام وهي سيطرة الجسد على الروح بدلا من سيطرة الروح على الجسد، خاصة ونحن نعيش أزمة اقتصادية وزيادة متسارعة في الأسعار.
يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- منتقدا غياب هذا المعنى في صيام المسلمين: "الصيام: إنه يرد النفس إلى القليل الكافي، ويصدها عن الكثير المؤذي! ذاك يوم نصوم حقا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى التهام مقادير أكبر، كما يفعل سواد الناس!! لعل أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما".
الخشية والمراقبة
من مقاصد ومعاني الصيام الكبرى تعلم خشية الله ومراقبته في السر والعلن، لأنه العبادة الوحيدة في أركان الإسلام التي نسبها الله لنفسه فقال في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به"؛ ذلك أن كل العبادات علنية إلا الصوم فهو بينك وبين ربك لتتدرب على إصلاح سرك وهذا جوهر التقوى الذي حدده القرآن مقصدا للصيام في قوله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، فالصائم المستبد لشعبه، الآكل لحقوق إخوته والناس، والمضيع لحقوق العباد، والمعتدي على المال العام، كل هؤلاء لا حظ لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش.
جمع القلب على العبادة
من يتأمل أحوال أئمة السلف في رمضان يلحظ بوضوح أنهم كانوا يجمعون قلوبهم على العبادة في رمضان خاصة تلاوة القرآن، كسفيان الثوري الذي كان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على تلاوة القرآن، والإمام مالك الذي كان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويتفرغ للقراءة من المصحف، ومن المعاني التي فقدناها في رمضان كثرة الصوارف والشواغل التي تأخذ القلب بعيدا عن الصفاء الروحي والسلام النفسي الذي يتحقق بمجاهدة النفس في تجنبها والاقتصاد في التعامل معها.
الانضباط والمبدئية
يعلمنا الصيام الانضباط والمبدئية فنحن ندقق قبل الفطر وعند الإمساك في الدقيقة وأقل منها حتى لا نعرض صيامنا للفساد أو البطلان، كما نتحرى الهلال ونستخدم الحسابات الفلكية لمعرفة بداية رمضان ونهايته حتى نلتزم التزاما تاما بالتكليف الإلهي، وهو صيام الشهر كاملا دون زيادة أو نقصان، وهذا يعلمنا المبدئية في حياتنا كلها، وإدراك قيمة الزمن واستثماره فيما يرضي الله ويعمر الأرض ويخدم الإنسانية.