داخل أحد المحال التجارية واجهت رائدة سرور موقفًا في نهار أحد الأيام الرمضانية، جعلها تقسم ألا تعود إلى محلّه مرة ثانية مهما كلّفها الأمر.
تقول سرور، ذهبت إلى أحد محال بيع ملابس الأطفال، ومن الطبيعي أن أقلب البضاعة لأختار المناسب لأطفالي، ومن ثم إلباسهم إياها لكي أعرف هل تناسب مقاساتهم أم لا، وبعد انتهائي لم تتناسب المقاسات مع أبنائي، واعتذرت بأدب للبائع وانصرفت، ولم يكن منه إلا أن انفعل غاضبًا.
ومثل تلك الحادثة تقع العشرات من المشادّات والشجارات بين البائعين والمشترين وعلى الطرقات بين السائقين في ساعات الصيام ولا سيّما الساعة الأخيرة من النهار الرمضاني، فتجدهم سريعي التوتر والانفعال، يرغب كل منهم بأن يدرك الطرف الذي يقابله بأنه صائم وعليه إعذاره ومعاملته وفق ذلك، وكأن الصيام حجة لسوء الخلق، بما ينافي حكمة الصيام بتهذيب النفس والسلوك وإعلاء قيمة الصبر… فهل الصيام سببًا للعصبية الزائدة، ونوبات الغضب التي تصيب الصائمين، وهل هناك علاقة بين الصيام والغضب؟ وكيف يمكن ضبط وإدارة أنفسنا عن الغضب؟
عادات وسمات شخصية
تبيّن الاختصاصية النفسية كفاية بركة أن نوبات الغضب، والعصبية لا يصاب بها جميع الناس، بل فئة منهم ولا سيّما الذين ينقطعون فجأة بسبب الصيام عن بعض العادات السيئة كالتدخين، أو الكافيين الموجود في القهوة، والنسكافيه، والشاي، والسكريات الموجودة في الكثير من المشروبات، والمأكولات.
وتوضح بركة لـ"فلسطين" أن تلك المأكولات، أو المشروبات التعوّد عليها يسبّب الإدمان، والامتناع عنها فجأة يسبّب اضطرابًا في المزاج، لأن الشخص لم يتدرج في التخلّي، أو التخفيف منها قبل رمضان.
وتنبَّه أن بعض الأشخاص تجد العصبية سمة شخصية وفطرية وليست مكتسبة، فيكونوا سريعي الانفعال والاستفزاز، والبعض يستغل نقطة ضعفهم للصدام معهم.
وتشير بركة إلى بعض الأشخاص يمكن أن استثارتهم بسرعة وهم الذين يتعاملون مع الجمهور، كالباعة، وبعض الموظفين الذين يضطرون للتعامل مع طباع مختلفة من البشر.
أخلاق الصائمين
وإذ تؤكد أن الانفعال في الصيام ليس مبرّرًا بجميع أحواله، تلفت إلى أن ضغط العمل والاحتكاك بجمهور واسع مختلف الطباع يصيب الموظف أو البائع بالعصبية فيفرغ غضبه على زملائه، والجمهور أيضًا.
وتبيّن الاختصاصية النفسية أن البيئة الاجتماعية والظروف المادية والاقتصادية، تؤثّر في مزاج الشخص، وتجعله في حالة صراع دائم مع من حوله، "متذرّعًا بالصيام".
ولهذا تجد أنّ الإسلام شدَّد على ضرورة التحلّي بالصبر في فترة الصيام، وأن أجر الصائم لا يكون إلّا بالسمو الأخلاقي امتثالًا لقول النبيّ الكريم: "إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إنّي امرؤ صائم"، وقال أيضًا: إِنما العلمُ بِالتَّعَلُّم، ووإِنما الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومن يتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ، ومن يتَّقِ الشر يُوقَهُ".
اقرأ أيضاً: الصيام.. تضحية إيمانية تنشط عمليات الأيض والتمثيل الغذائي
وفي هذا الإطار، تشير بركة إلى بعض النتائج والروابط العلميّة التي تحدَّثت عن وجود علاقة وثيقة بين ضبط النفس ومستوى الجلوكوز في الدم إذ بحسب عالم النفس ماثيو جيليوت في بحثه الشهير (فسيولوجيا قوة الإرادة: علاقة الجلوكوز في الدم بضبط النفس)، فإنّ الجلوكوز أو سُكّر الدم هو المصدر الأساسي للطاقة في عمليات البناء في الخلايا، وبانخفاض كميات الجلوكوز -نتيجة الصيام مثلًا- تقلّ قدرة المرء على ضبط نفسه والسيطرة على انفعالاته، والعكس صحيح.
إدارة الغضب
وتدعو بركة كل شخص عصبي، أو يصاب بنوبات غضب إلى ضبط النفس بتنظيم وقته في نهار رمضان، وإلزام نفسه بعدد معين من ساعات النوم، والعمل، والتواصل الاجتماعي، وأداء العبادات، والفروض، والورد اليومي، والأذكار، والمساعدة في تحضير الإفطار، والاستغفار، كلها كفيلة بضبط النفس وتهذيبها.
وتنصح الغاضبون بجعل رمضان فرصة عظيم لنيل الأجر بتجاهل الصغائر، ومحادثة النفس بطريقة إيجابية من أجل التحلي بالهدوء، والابتعاد عن العصبية، والوضوء، وتغيير الجلسة عند الغضب.
وتبيّن أن بعض علماء الاجتماع توقعوا وجود علاقة إيجابية بين الدين وضبط النفس بسبب معتقدات ما بعد الحياة، إذ يبدو من المنطقي لمن يؤمن بوجود حساب أخرويّ على أفعاله الدنيوية أن يظهر مقاومة أكبر أمام المغريات الدُنيوية.
كما يعتقد بعض الباحثين، وفق بركة، أن الإيمان بالعقاب والثواب يعزّز الإيمان بالإرادة الحرة، الذي بدوره يعزّز من ضبط النفس. الدراسات التي استقصت العلاقة بين الدين وضبط النفس تقترح أن آلية تعزيز الدين لضبط النفس هي بتعزيز المراقبة الذاتية الناتجة عن الإيمان بالثواب والعقاب.
وتؤكد أن الشخص العصبي عليه ألا يتردَّد في طلب الاستشارة من الاختصاصيين النفسيين، لتعلّم كيفية التعامل مع غضبه وإدارته، وتغيير نظام حياته، وتحديد الأشخاص الذين يستفزونه، أو المواقف التي تثيره، والابتعاد عنها قدر الإمكان.