كان لافتًا تصريح الخارجية الأمريكية مساء يوم الأحد، في ذروة الأحداث التي اجتاحت الشارع الصهيوني ووصلت إلى حد محاولة المتظاهرين اقتحام منزل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ذلك التصريح الذي عبّر فيه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية عن قلقه مما يحدث في (إسرائيل) ومبديًا تخوفه من أن تؤثر الخلافات الداخلية على الجيش الصهيوني، اللافت في هذا التصريح أن الإدارة الأمريكية كان همُّها الأول هو تماسك الجيش الصهيوني وضرورة الحفاظ على جاهزيته الدائمة للتعامل مع أي تهديدات لدولة الاحتلال، فلم يتطرق التصريح لحالة الترهل السياسي الذي تعانيه (الدولة) أو البعد الاقتصادي المرتبط بحالة الاستقطاب الحاد في الشارع الصهيوني، ولم يتطرّق إلى تجاوز الحكومة الحالية للتوجه الأمريكي في إدارة عملية التسوية السياسية "المعطلة" التي ترعاها الإدارة الأمريكية منذ تسعينات القرن الماضي، كل ما سبق كان بالنسبة للإدارة الأمريكية مجرد تفاصيل يمكن الحديث فيها لاحقًا، لكن الشيء المهم والذي يجب أن يكون دائمًا على سلّم الأولويات هو مدى قوة دولة الاحتلال عسكريًا وجهوزيتها من هذه الناحية، ما سبق يدلل بوضوح على أن الإدارة الأمريكية تؤكد عبر تصريحاتها أنها تستخدم "إسرائيل" كعصا غليظة لها في المنطقة تضرب بها من يشذّ عن السياسة الأمريكية، وفي المقابل يُتغاضى عن كل الموبقات والجرائم التي يرتكبها الاحتلال وهذا ما نلمسه جليًا من الحيلولة دون مجرد إدانة الاحتلال في المحافل الدولية وخاصة مجلس الأمن عما يرتكبه من جرائم، ودعم هذا الكيان بكل وسائل الحياة للبقاء كشوكة في حلْق الأمة العربية والإسلامية.
الرئيس الأمريكي بايدن الذي صرّح في غير مرة أنه صهيوني الهوى وأن (إسرائيل) لو لم تكن موجودة لعملت الإدارة الأمريكية على إيجادها، ما يشير إلى مدى الانزلاق الذي يمكن أن نصل له نحن الفلسطينيين في التعويل على الإدارة الأمريكية في الضغط على الاحتلال لإلزامه بالسير قدمًا في مشروع التسوية، وصولًا لـ"حل الدولتين" وإقامة دولة فلسطينية، تلك الدولة التي قال عنها بايدن لأبي مازن أنها تحتاج "المسيح" حتى ترى النور.
ربما يظن البعض أن استدعاء السفير الإسرائيلي من الخارجية الأمريكية هي عملية ضغط غير مسبوقة على الاحتلال من الإدارة الأمريكية؛ للاحتجاج على قرار الحكومة الصهيونية بإلغاء قرار سابق "بفك الارتباط"، بما يمكّنها من إعادة بناء عدة مستوطنات في شمال الضفة أُخليت قبل ثمانية عشر عامًا، ولكن هل يرقى هذا الموقف الأمريكي في استدعاء سفير لإبداء الاحتجاج إلى الموقف الأمريكي الرافض لمجرد إدانة الاستيطان في مجلس الأمن؟ علمًا أن الإدانة هي مجرد قرار ليس له أثر قانوني أو سياسي؛ لأنه يعتمد بعد إصداره على مدى احترام الدولة الصادر بحقها القرار للقانون الدولي والمؤسسات الدولية، ونحن نعرف تمامًا الموقف الصهيوني من كل ما يتعلق بالقانون والأعراف والمواثيق الدولية، ولذلك فإن الإدارة الأمريكية تتعامل مع الاحتلال كجزء منها متموضع في أكثر مناطق العالم حساسية وأهمية من النواحي الاقتصادية والجيوسياسية الأمر الذي يفسر نعومة تعاملها مع بعض المشاغبات التي قد يبديها قادة الاحتلال بين الفينة والأخرى، وإلا فإن الإدارة الأمريكية قادرة على فرض "حل الدولتين" في أيام لو أرادت، ولو استخدمت قدرًا بسيطًا من وسائل الضغط التي تمتلكها تجاه الاحتلال لن تكون بحاجة أبدًا "للمسيح" ليأتي بمعجزة تؤدي إلى "حل الدولتين".
ذكرت في مقال سابق أن الخلافات الداخلية في الكيان بالرغم من شدتها ووصولها لحد يؤشر بخطر محتمل على تماسك الدولة أن هذه الخلافات لن تصل لحد الحرب الأهلية، وعزوتُ ذلك لحالة الإسناد الخارجي لهذه الدولة الوظيفية من الولايات المتحدة والدول الغربية، بمعنى أن الإدارة الأمريكية لن تسمح لأي خلافات داخلية بأن تؤدي إلى انفراط عقد هذا الكيان المصنوع على عين الولايات المتحدة.
وهي كما أعتقد تمسك بطرفي خيط هذا الكيان وهي التي تنظم عُقَده التي تعرفها جيدًا، وترتبها كلما اقتضى الحال حسب ما يخدم السياسة الأمريكية والمصالح الأمريكية، ولذلك أعتقد أن الإدارة الأمريكية ستعمل في الفترة القادمة على إعادة ترتيب الأوراق الإسرائيلية الداخلية بوسائلها الخاصة والمؤثرة جدًا، وأظن أن حالة الاستقطاب هذه ستنتهي عمّا قريب بانفراط عقد هذه الحكومة خصوصًا مع علوّ أصوات وازنة في الليكود تنتقد سياسة نتنياهو، وأظنها تعمل بضوء أخضر أمريكي.
الأمر الذي قد يؤدي إلى فقدان الحكومة الحالية للأغلبية في الكنيست، بما يعني الذهاب إلى انتخابات جديدة أو تشكيل ائتلاف حكومي جديد، ولكن يبقى السؤال الأهم لنا كفلسطينيين أين نحن مما يحدث؟ وهل ستبقى القيادة الرسمية الفلسطينية تعوّل كثيرًا على الإدارة الأمريكية أو تتأمل أن يؤدي الاستقطاب الداخلي لدى الكيان لإسقاط حلف نتنياهو؟ ولو فعلًا سقط نتنياهو هل سيكون لأي حكومة جديدة الاستعداد لتقديم تنازلات لم تقدمها أي حكومة صهيونية منذ عام 1990؟ أنا أعتقد أن على القيادة الفلسطينية أن تغير من أجندتها باتجاه إعطاء الأولوية لترتيب أوراق البيت الفلسطيني الداخلي وإعادة الاعتبار للمؤسسات السيادية الفلسطينية والاتفاق على برنامج وطني، ثم بعد ذلك مخاطبة العالم بهذا البرنامج على أساس من الوحدة الوطنية، عند ذلك فقط يمكن للموقف الفلسطيني أن يلقى الاهتمام الإقليمي والدولي.