هو حقّا لا ينتظر منا البكاء بل الدعاء ووقفة الرجال، أمّا وقد حقق أسرانا نصرًا عزيزًا على بن غفير واستهدافه الأرعن للسجون وقاطنيها، فإن المقولة التي تلوح في الأفق: لا تصلينّ العصر إلا في بني قريظة، فإنّ حق خضر علينا ألا ندعه ينكسر لأنه يمثّل روحًا عظيمة تسري في أرواحنا، ولأنه مثّل في مرحلة صعبة حالة انتصار عظيمة، لأن كسره يعني لسلطة الاحتلال أمرًا عظيمًا وإنجازًا كبيرًا يضيفه إلى سجلّه الذي لا حدود فيه لإجرامه.
يراهن خضر أولًا على أنّ له ربًا عظيمًا، هو وليّه وناصره وراحمه ومقوّيه وفي النهاية لن يحدث له إلا ما شاء الله له أن يحدث، ولقد أوصله إيمانه ويقينه بربّه في أوّل إضراب خاضه وحده أنّ الله ناصره، وقد حصل ذلك أكثر من مرّة، وهذه لم ينقص إيمانه فيها ولم يضعف يقينه، قد يتغيّر الظرف السياسي ولكن يقينه بنصر الله لا يتزعزع أبدًا.
كان جديدًا أن يواجه مخرزهم بكفه الخاوية وحده، بمعركة مختلة الإمكانات ثم ينتصر في اليوم السادس والستين بعد أن حشرهم في الزاوية، وتمكن من نزع القناع عن صورتهم البشعة، وظهر سوادهم وانقشع ليتسلل ضياء معتقلينا من منافيهم ذات الأسوار العالية، خرجت قضية أسرى الحرية على السطح ليرى العالم حجم الظلم وعظم المأساة، كان لإضراب خضر الضربة التي أطلقت حملة الطرق على الخزان، وكان لهذه الرمزية العالية أن تشق طريقها، وأن تستمر دفقاتها لنرى بعد ذلك من يهزم الاحتلال ويعريه من كل ادعاءاته ويكشف هول ساديتّه وسوء أخلاقه.
اليوم يدخل معتركًا سار في دربه طويلًا، ليس سهلًا أن يتخذ قرارًا من هذا القبيل فمسيرة الستة والستين يومًا لم تكن نزهة، كان مسارًا طويلًا في طريق الألم ورؤية الموت شاخصًا لا يزيغ عن عينيه، كانت حربًا نفسية تشنها دولة بكل أجهزتها القمعية والإعلامية، وكان وحيدًا إلا من إيمانه وصلته بربه وثقته بالنصر وعدالة قضيته، وكلما مر يوم وكشفت المعركة عن ساقها واشتد أوارها ازداد تمسكًا بهدفه ورفع من وتيرة تحديه واشتد نورًا واشتعالًا. كانت طريقه الأولى مغامرة بحياته واليوم ومع شدة وعورة الطريق فالمغامرة أشد وأقسى.
ماذا تريد يا خضر؟ لماذا تذهب بحياتك على حافة الموت؟ لماذا لا تفكر كما يفكر الآخرون؟ يدخل أحدنا معترك السجن، يدور الفورة مع الدائرين فيلتحم معهم بمشاعره وأفكاره التي تشتعل وسرعان ما تنسجم مع الجو العام، خضر يخرج بروحه من هذا الصندوق الأسود، يحلق عاليًا ليعود بروحه الخاصة، يعود بالقضية إلى المربع الأول، مربع الحق والباطل، مربع حرية مغتصبة وعنجهية تواصل الاغتصاب، يرى المستضعفين المغلوب على أمرهم والمستكبرين الذين يمارسون استكبارهم بكل صلف ووقاحة، المعادلة واضحة على أصولها أمام عيني خضر، فهل يضع رأسه مع الرؤوس لينتظر موسم حصادها أم يثور في وجه هذا الجبروت العاتي؟
يقرر خضر الانطلاق من جديد، يعلن الثورة وتحليق الروح مهما علَى الثمن ومهما شق الطريق، يفلت روحها من عقال، وإصار وأغلال واقع يكبلها ويجعلها تتثاقل إلى الأرض، يتحرر من ثقلة الطين بروح ملائكية لا ترضى لنفسها الذلة والهوان والصغار.
خضر عدنان يشعل المعركة من جديد، يحرق السفن ويتقدم الصفوف، وهم يعرفون حق المعرفة هذا العنفوان الذي لا ينكسر، تتواجه إرادتان: إرادة حرة مع إرادة المغتصب، هم الآن يبحثون بمكرهم وخبثهم المعهود عن طريقة ينزلون بها عن كبرياء غطرستهم، وأمام جحافل خضر لا مفر لهم من هذا النزول، ولكن يبقى كم من الوقت وكم من الأيام الشاقة التي تستمر بها هذه المعركة. هذا رهن عوامل متعددة معروفة أهمها حجم الحراك المؤازر لهذا الإضراب، إضراب كرامة تحققت من قبل وعلينا أن لا نسمح لأنفسنا أن تضيع مهما كلف الألم.