يوميًّا، تترجم (إسرائيل) طبيعتها الاستعمارية الاستيطانية كفعل إحلالي اقتلاعي يستهدف الأرض الفلسطينية في مناطق الجليل والمثلث والساحل والنقب، وسائر المناطق التي احتلتها وأقامت عليها كيانها عام 1948، مثلما يستهدف الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة التي احتلتها عام 1967، عندما استكملت سيطرة مشروعها الاستعماري على أراضي فلسطين التاريخية.
في هذا السياق، إن صراع الفلسطيني مع هذا المشروع هو ليس صراعًا وطنيا ببعده العام الذي عادة ما يستهدف السيادة السياسية لشعب على أرضه، ويقتصر على نزع هذه السيادة وانتزاع السيطرة على البلد ومقدراته بالمفهوم العام، أو بمستوى "الماكرو" فقط كما يقولون، بل يتعدى ذلك إلى صراع موضعي بمستوى "الميكرو"، يجعل كل فلسطيني من حيث هو فلسطيني، بغضّ النظر إذا كان يسكن في الجليل أو الضفة أو الساحل؛ يصارع على أرضه الخاصة، وبيته.
وبدون شكّ، إن فلسفة شارون التي دعت المستوطنين إلى السيطرة على تلال الضفة الغربية بقوة الذراع وبحماية جيش الاحتلال، طبعا، هي الفلسفة ذاتها التي سيطرت بواسطتها الحركة الاستيطانية التعاونية (الكيبوتسات) على سهول الساحل ومرج بن عامر والجليل بحماية الجيش ذاته، كما أن اعتداءات المستوطنين على أشجار الزيتون والمحاصيل والأراضي الخاصة الفلسطينية في الضفة الغربية، هي الاعتداءات ذاتها التي كانت وما تزال تقع على الأراضي التي كانت توصَف بالمصادرة في عين ماهل والمل وعرابة وسخنين والروحة وأم الفحم، كما أن المناطق الاستيطانية التي أقيمت في الجليل، هي امتداد لفلسفة السيطرة على التلال في الضفة الغربية.
من هنا، فإن مفهوم الصراع على الأرض الذي يشكل محورا أساسيا في الصراع مع الحركة الصهيونية، يكتسب إضافة إلى بُعده الوطني العام، بُعدا شخصيا خاصا، يجد فيه الفلسطيني نفسه، يصارع على قطعة الأرض الواقعة أمام بيته أو على البيت نفسه، الذي يدّعون أن يهوديا قد سكنه قبل عام 1948، كما يحدث في الشيخ جراح وسلوان في القدس، أو كما هو حاصل في عكا ويافا وحيفا، حيث تجري عملية إخلاء منهجية تستهدف إفراغ المدن الفلسطينية التاريخية من سكانها العرب.
بعد احتلال فلسطين وتهجير غالبية سكانها العرب عام 1948، منعت (إسرائيل) اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها، وسيطرت على أراضيهم وأملاكهم، وحرمتها حتى لو كانوا على بعد بضعة كيلومترات من هذه الأرض. وبغية استكمال عملية السطو والسيطرة تلك، فرضت الحكم العسكري على هذه المناطق حتى عام 1966، كما واصلت بعد هذا التاريخ أيضا، مصادرة أرض الفلسطينيين الخاصة والعامة، وزرع المستوطنات في قلب التجمعات العربية، ضمن مخطّط لتقطيع تواصلهم الجغرافي، وتحويل قراهم ومدنهم إلى جزر معزولة ترتبط بالمركز اليهودي.
في يوم الأرض الـ76، تفجّر الغضب الفلسطيني المتراكم على مدى عقود من الظلم؛ غضب امتزج فيه الوجع الشخصي بالهم الوطني، وتداخلت فيه قضية الأرض بقضية الهوية الوطنية، واستعادة الحضور السياسي لشعبنا الذي يخرج من تحت ركام النكبة، وبدأ في إعادة تكوين كينونته الوطنية، في إطار منظمة التحرير، وتشكيل هيئاته الشعبية في الخارج والداخل، وبضمنها لجنة الدفاع عن الأراضي، التي أعلنت إضراب 30 آذار 76، وصنعت يوم الأرض الخالد الذي توحّد فيه شعبنا في مختلف أرجاء الوطن.
ولأول مرة منذ عام 1948، دخلت المجنزرات الإسرائيلية لتستعيد احتلال عرابة وسخنين وكفر كنا والناصرة، وتذكِّر بواقع لم تستطع (إسرائيل) طمسه رغم سياسة التهجير والتطهير العرقي التي مارستها منذ عام 1948، وهو حضور الشعب الفلسطيني الوطني على أرضه في الجليل والساحل والمثلث والنقب، كما في الضفة وغزة.
واليوم، بعد نصف قرن على يوم الأرض ما يزال المستوطنون "الجدد"، أصحاب القبعات الدينية اليهودية الذين استبدلوا المستوطنين "العلمانيين" الأوائل، في إطار تحولات الحركة الصهيونية الاستيطانية، يحاولون عبثا احتلال مراكز المدن التاريخية الفلسطينية، بواسطة ما يُسمى بالأنوية التوراتية، التي ينشرونها في عكا واللد ويافا والرملة وصفد، مثلما يحاولون "احتلال" وضمّ مناطق ج في الضفة، برعاية حكومة الاحتلال وحماية جيشه، ويخلقون بذلك واقع أبارتهايد على مساحة فلسطين التاريخية.