ما هي الأخلاق؟ سؤال دأب الفلاسفة منذ عصر اليونانيين قبل الميلاد على الإجابة عنه، إذ إن أغلبية الفلاسفة يعتقدون أن هناك حقائق موضوعية للأخلاق الصحيحة مثل حقيقة أن الشمس تشرق من الشرق، ودور الفيلسوف هنا يكمن في البحث عن هذه الأخلاقيات وأن ينشرها للناس، لأن الأخلاق هي قوانين الأفعال الإنسانية ومثلها العليا.
كل هذه الأحكام أخلاقية في جوهرها وتفترض أنه هناك (ما ينبغي أن يكون) لترشيد حياة الإنسان وتقويم سلوكياته.
لعل من أبرز مدارس الأخلاق في الغرب هي مدرسة الإنجليزيين جيرمي بنتام (1748م-1832م) وجون ستيوارت مل (1806م-1873م) حيث طوّرا مفهوم اللذة، وعُني به تحصيل أكبر قدر من السعادة وتجنب كل ما يمكن الإنسان تجنبه من الألم، ثم أعادا تدوير هذه الفلسفة فيما تسمى الفلسفة النفعية في تنظيراتهما.
تقوم الفلسفة النفعية على أن غاية كل الناس هي إدراك اللذة أو المنفعة وكل ما سوى ذلك مجرد وسائل لبلوغ غاية الاستمتاع، إن المنفعة هي الخير المطلق المرغوب فيه والألم هو الشر المحض الذي يجب تفاديه، ومن ثم فإن المنفعة، كما يرى هي "اللذة بعينها مقابل غياب الألم".
اعتنق بنتام هذا الفكر النفعي، ورأى أن الإنسان "مثل الحيوان، غير أن الفارق أن الإنسان يُعمِل عقله في اتباع اللذة، فالفعل الخير بالنسبة له هو ما يجلب اللذة المستمرة، والفعل الشرير ما يعود بألم مستمر". فالأخلاق إذن يمكن تقييمها وفقًا لشيء مادي محسوس وملموس في الواقع وهو الألم أو اللذة. ومن هنا كانت الأخلاق وفقًا للنفعيين: تجريبية خالصة يمكن قياسها ورصدها طبقًا لمقدار الألم أو اللذة الصادرين عن سلوك معين.
على جانب آخر رفض الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724م-1804م) هذه النظرة الأخلاقية المادية للذة والألم، وكان نقده الرئيس لها قائمًا على أن الإنسان عاجز عن بلوغ السعادة الحقيقية بسبب قصور نظره وتقديره الشخصي. فتجاوز كانط النظرة المادية للأخلاق في سبيل تأسيس غاية أكبر من مجرد المنفعة الشخصية، فيما سماها فلسفة الواجب الأخلاقية، مثل الإحسان ومحافظة الإنسان على حياته وحياة الآخرين، وهذا الواجب غير مرتبط بالتجربة الذاتية ومنزه عن أي منفعة شخصية ولا متعة مادية من ورائه، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس الفعل الأخلاقي دون أن يعود عليه بأي نفع، لكن كيف افترق هنا كانط بمثاليته الموضوعية عن الفلسفة النفعية الذاتية؟
يؤكد كانط أن ثمة حقيقة موضوعية مثالية لفكرة الواجبات الأخلاقية، إنها مقتضى العقل المحض. ويقر بأن فلسفته الأخلاقية المثالية تفضي إلى الإيمان بالله بصفته الخير الأسمى ومانح القانون الأخلاقي.
هذا الإشكال للمثالية الأخلاقية التي طرحها كانط هو ما دفع الفلسفة النسبية للظهور كرد فعل على الإغراق في ذلك التجريد المثالي للأخلاق. فأمام الاختلاف الهائل للثقافات ووجهات النظر والقيم الحاكمة للبشر يظهر الإشكال المقلق: أي القواعد ينبغي على الإنسان اتباعها إذا تصادمت القرارات الأخلاقية؟ فالأخلاق نفسها ليست مطلقة ولا موضوعية وإنما خاضعة لمعايير ذاتية بحتة تختلف من إنسان لإنسان ومن ثقافة لأخرى، وكل إنسان له قِيَمه الخاصة التي ينبغي أن يحتكم إليها هو شخصيًا ولا يحاكمه أحدٌ من خارجها، الحق بالنسبة لإنسان قد يكون باطلًا لآخر، والعكس بالعكس.
يتيه الإنسان وفقًا للنسبية في دروب مظلمة يضيع فيها الحق والباطل ويختلط الخير بالشر، إنها غابة حالكة السواد لا يوجد فيها حكم مطلق واحد يرشد الناس إلى الصحيح والخطأ. إن السائر في درب النسبية سينتهي به المطاف لا محالة، إلى أن يجعل كل وجهات النظر متساوية.
وأمام هذا التيه السرمدي، ماذا خسر العالم بتخليه عن الإسلام؟