في توقيت مهم اتخذت المملكة العربية السعودية قرارًا يُعدّ تحوّلًا دراماتيكيًا وإستراتيجيًا في علاقة البلدين الإسلاميين اللذين يمثلان القيادة الروحية والمذهبية للمسلمين في العالم من السنة أو الشيعة.
العلاقة بين البلدين شابها منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران 1979 التوتر والقلق المتبادل، إذ تنظر المملكة العربية السعودية لقيادة الثورة الإسلامية في إيران على أنها تسعى لتصدير الثورة إلى المملكة، وتسعى في الهدف البعيد إلى السيطرة على المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة، وفي ذات الوقت كانت إيران تنظر على الدوام للمملكة على أنها تصطف إلى فسطاط المعادين للثورة الإسلامية بقيادة الولايات المتحدة، التي أعلنت عداءها للثورة الإسلامية منذ انطلاقتها وفرضت عليها حصارًا دبلوماسيًّا واقتصاديًّا ما زالت تداعياته وآثاره وأشكاله مستمرةً حتى يومنا هذا.
وقد أدى التنافر الحادث بين القيادتين إلى تشتيت وحدة العالم الإسلامي المفترضة وتبديد جهوده التي كان يجب أن تتوحد من أجل قضايا العالم الإسلامي، وربما كانت أبرز محطتيْن للخلاف بين البلدين الكبيرين هما: حرب الخليج الأولى إبّان الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثمانيَ سنوات -اصطفت المملكة العربية السعودية في حينها علانيةً لجانب العراق ودعمته بكل الوسائل المالية والعسكرية-، ما كان له بالغ الأثر في توتر العلاقات بين البلدين، إذ شاهد العالم آثار التوتر عدة مرات في مواسم الحج التي كان يتظاهر فيها الحجاج الإيرانيون ضد سياسات المملكة بعشرات الآلاف، وهو الأمر الذي كانت تنظر له السعودية أنه محاولة لزعزعة نظام الحكم فيها.
أمّا المحطة الثانية فهي حرب اليمن التي لا تزال مشتعلة حتى الآن، إذ دعمت إيران جماعة أنصار الله ضد التدخل السعودي في اليمن، وكان أشدّ مراحل التوتر حين قصفت مُسيّرات قادمة من اليمن شركة أرامكو التي أدت لاتهام سعودي لإيران بالمسؤولية عن ذلك الهجوم.
اليوم وبشكل مفاجئ يتفق البلدان على إعادة العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخفف حدة التوتر إلى حدٍّ كبير بين البلدين دون شكّ، ولكن لا أظن أن ينهي الخلاف والتباين كاملًا بينهما، ومَرَدُّ ذلك يكمن في محاولة فهم البواعث السعودية الداعية للخطوة والتعرّف إلى الهدف السعودي من إعادة العلاقات بين البلدين، الذي أظنّ أنه يتمركز حول اليمن وإنهاء الحرب فيها بعد أن أيقنت القيادة السعودية أن استمرار الحرب هو عملية استنزاف للمملكة دون جدوى، الأمر الذي يتطلب تحرّكًا مؤثرًا لإنهاء الحرب بأقلّ الخسائر، وهو ما كان بالتوجه لمن تعده السعودية المتحكّم في زمام الأمور باليمن وهي الجمهورية الإسلامية.
ولربما لم يعد البعد الطائفي عاملًا مؤثرًا في سياسات المملكة العربية السعودية في علاقاتها مع إيران خاصة مع السياسات الانفتاحية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وسياساته الواضحة بالتحلّل من الإرث الديني التاريخي التقليدي لنظام الحكم في السعودية، والسعي لتكون السعودية بلدًا منفتحًا كبقية دول الخليج العربية، باستثناء الأماكن المقدّسة في مكة والمدينة وهذا ما يُمارس عمليًّا من هيئة الترفيه السعودية، وبالتالي لم يعُد للبعد الطائفي الذي كان عاملًا حاكمًا للسياسة السعودية تجاه إيران تأثيرٌ كبير، إلا أن العامل السياسي يبقى الضابط الأهمّ للسياسات السعوديّة مستقبلًا، إذ ما زالت السعودية تمارس ذات السياسة التقليدية للمملكة، بل وتعمّق سياساتها تلك باعتبارها جزءًا من التحالف الأمريكي الغربي الذي يمتد نفوذه إلى منطقة الشرق الأوسط كمنظمة حيوية لا يمكن السماح لأيِّ قوة كانت بالعبث فيها، لكونها تحتوي على أهم مصادر الطاقة، إضافة إلى تحكمها في أهمّ المضائق البحرية العالمية.
وهنا تلتقي مصلحة المملكة بصفتها دولة غنية الموارد ذات رقعة جغرافية واسعة كانت دائمًا، محطّ أطماع لدول أكثر منها قوةً سواء كانت هذه الدول مجاورة أو بعيدة جغرافيًّا عن المملكة، وهو ما عايشته المملكة بقسوة في حرب الخليج الثانية حين تعرضت للتهديدات العراقية إبان حكم الرئيس العراقي صدام حسين، ولذلك بقيت المملكة العربية السعودية بحاجة دائمة إلى حلف قوي يسكّن مخاوفها، وفي سبيل ذلك كانت على الدوام حليفًا مهمًّا للولايات المتحدة.
أختلف كثيرًا مع من ذهب إلى أن إعادة العلاقات بين السعودية وإيران مقدّمة لإعادة تموضع سياسي للمملكة، لتصبح جزءًا من تحالف إقليمي مناوئ للهيمنة الأمريكية على المنطقة، بل أظن أن الخطوة السعودية ستكون مقدمة لاتخاذ خطوات مهمة في تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة بعد إنهاء حرب اليمن وتهدئة العلاقة المتوترة مع إيران، قد تتمثل هذه الخطوات في تطبيع العلاقة مع "إسرائيل" وبذلك تكون المملكة بقيادة محمد بن سلمان قد حققت هدفيْن في آنٍ واحد وهما خروجها الآمن من مستنقع اليمن وإنهاء التوتر في الخليج عبر إعادة العلاقات مع طهران من جهة، وفي ذات السياق ومن جهة أخرى التقدم في مسار التطبيع المرغوب جدًّا من الحليف الأمريكي، وهو الأمر الذي يتماهى كثيراً مع سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في رؤيته المستقبلية للمملكة بل وللمنطقة ككل.