كان لي لقاء لتصوير حلقة تلفزيونية عمّا يفعله القرآن الكريم في إنتاج الشخصية المتميّزة، مع الدكتور ناصر الدين الشاعر، وقد أبدع الدكتور في التحليق بناء عاليًا فوق ما كنا نتوقّع بكثير، فلكم أن تتخيلوا أيّ سماء تزهو بها أفكار الدكتور وكلماته الجامعة، بوقت قصير رسم المشهد القرآني باستخدام طريقة القرآن المصوّرة، وجدت نفسي أرى فيلمًا سينمائيًا يجعل من المعاني حياة متحرّكة بإتقان جميل، وموحية بإبداع يحرّك كل ما في الوجدان من مشاعر.
والجميل أنه يعرض لنا كلّ هذه الجماليات القرآنيّة ويستعرض ما تصنعه آيات القرآن في حياتنا من جمال وهو غارق في آلام لا يعرف حدودها إلا الله، آلام في جسده وساقَيه التي ضربهما رصاصات الغادرين، وآلام ما وقع عليه من ظلم وقهر من بني قومه الذين طالما خدمهم، وحمل على عاتقه آلامهم ومعاناتهم وأثقال هومهم، صبر وصابر وهو متفانٍ في رأب صدع انقسامهم، ولمّ شمل وحدتهم بروح فدائية عظيمة.
جاء متحاملًا على نفسه تقود سيّارته ابنته إلى موقع التصوير، ومع هذا لم تغادر الابتسامة وجهه المنطلق البشوش الذي يملأ صدرك بهجة وجمالًا دون أن يجعلك ترى طرفًا من حجم آلامه التي تنوء عن حملها العصبة من الرجال.
وبعد استعراض جميل وعميق ورفيع لما يفعله القرآن في صناعة الشخصية المسلمة المتميّزة بجمال التصوير القرآني، وقدرته على إعادة تشكيل العقل وتحرير القلب من كل المشاعر السلبية، وتحميله مشاعر الايمان العظيمة التي بهما تثمر الإرادة الحرة والسلوك الرشيد والشخصيّة المسلمة المتميّزة.
ارتفع نبضي عاليًا عندئذ، وطرق جدران قلبي بقوّة وأنا أسمع هذا وفي ذات الوقت أرى النموذج أمامي شاخصًا، ينسجم تمامًا لسان حاله مع لسان قوله، هذا هو القران بما يفعل في صناعة الرجال يتمثل بمن أجري معه اللقاء، هذه الابتسامة الحرّة الجميلة تلخّص الموضوع والفكرة، تنتصر وتعلو على جبال من القهر والألم، تعلو بها وسطية الدين وحكمته والروح القرآنية العالية الرفيعة، ترى بأمّ عينيك الحكمة التي حدّثنا عنها القرآن "يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَابِ".
لقد رأيت الربانية بين يدي، رأيت من قال الله فيهم وشقّ لهم اسمًا من اسمه: " وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ " رأيت بأمّ عيني قوله تعالى "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّۢ قَٰاتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ ۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰابِرِينَ" رأيته وهو يقول قولة الربانيين: " وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰافِرِينَ" ، أن يقول أحدنا هذا وهو متمطّ على أريكة أو على منبر يعلوه ويخطب في الناس، هذا سهل، أمّا أن يقوله وهو يعلو على ساقين سكنتهما جبال من الألم والقهر فهذا والله أمر عظيم.
ما أجمل وما أعظم أن ترى القرآن متمثّلًا في رجال، أن يأخذ حظًّا وافرًا مما وصل إليه رسول الله عندما وصفته عائشة رضي الله عنها بأن خلقه القرآن، وما أروع أن ترى النماذج القرآنية وهي تصبر وتصابر وترضى وتثابر وتبقى مرفوعة الرأس عزيزة كريمة تعشق الله ورسوله وتصرّ على أن تبقى مدادًا ودماء وقولًا وفعلًا تجسد الرسالة الخالدة، وتضحّي بكلّ شيء من أجل إيصالها للناس بأبهى صورة وأرفع مقولة ولتأخذ بيد الناس لتحلّق بهم في سمائها العالية.
أيها المعتدون على هذه القامة العالية في الوطن والدين، أراكم وأنتم تتخزبلون وتتلفّعون في عار ما فعلتم، وأنتم تعادون وليًّا من أولياء الله الذين جعلوا حياتهم كلّها لله، أين تهربون من أنفسكم، كيف تواجهون هذه الابتسامة التي تشرق في سمائنا ليس كلّ صباح وإنما صباح مساء لأن شمس الحقّ والحرية أبدًا لن تغيب ولا يمكن لرصاصات غادرة أن تغيّبها أبدًا، قولوا لي بالله عليكم وأنتم تنظرون إلى وجوهكم في المرآة هل ترون فيها ابتسامة شبيهة بتلك الابتسامة، لا أعرف شكل ابتسامتكم ولا أحد يعرفها، لا أعتقد أنها تجرؤ على الظهور لأنها تغرق في ظلمات الظلم، توبوا وعودوا إلى رشدكم وأنتم على أبواب رمضان إذ لا أدري كيف تقرؤون القرآن في شهر القرآن؟
ابتسامتك سيدي تنتصر وتلخّص الحكاية وتخرج لنا فيلمًا حيًّا بديعًا عن قصّة الصادقين مع القرآن.