هذه هي الحقيقة على خلفيَّة الاتِّفاق الثلاثيِّ، الصينيِّ السعوديِّ الإيرانيِّ، الذي تكلَّل بعودة الدِّفء من جديد للعلاقات بَيْنَ المملكة العربيَّة السعوديَّة والجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة بعد قطيعة دامت حوالي سبع سنوات؛ ذلك أنَّ هذا التقارب السعوديَّ الإيرانيَّ هو أحَدُ المحرَّمات الصهيوأميركيَّة في المنطقة، حتى لو كان دافئًا ولا يصل إلى حدِّ التكامل والتنسيق حَوْلَ قضايا المنطقة وملفَّاتها الساخنة؛ لأنَّ القطيعة وتأجيج التوتُّر وإثارة الفِتن هي الاستثمار الذي راهنَ عليه الصهيو ـ أميركيُّ، بما في ذلك القطيعة بَيْنَ الرياض وطهران، في استلاب المنطقة، وهو في الحقيقة استثمار بمنزلة الدجاجة التي تبيض ذهبًا، سواء لجهة مئات المليارات من الدولارات التي جناها الغرب الاستعماريُّ من هذا الاستثمار، أو حالة الاستقرار (المؤقَّت) التي ظلَّ يعيش في كنفها كيان الاحتلال الصهيونيِّ، مستفيدًا من هذه القطيعة وهذا التوتُّر وإثارة الفِتن بَيْنَ دوَل المنطقة وشعوبها، في ترتيب أوراقه ومشروعاته الاحتلاليَّة والاستعماريَّة والاستفراد بالشَّعب الفلسطينيِّ؛ لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، والمُضيِّ في تحقيق الأحلام التلموديَّة بقيام المستعمرة الكبرى المُسمَّاة )إسرائيل( من النِّيل إلى الفرات.
من الثابت أنَّ كيان الاحتلال الصهيونيِّ لا يروق له أنْ يرَى تكاملًا أو تنسيقًا يصل إلى الوحدة بَيْنَ دوَل المنطقة وشعوبها؛ لأنَّه يوقنُ يقينًا تامًّا أنَّه بدُونِ إثارة الفِتن والحروب بَيْنَ دوَل المنطقة، ومصادمة شعوبها وإدخالهم في أتون خلافات طائفيَّة ومذهبيَّة، وتدمير أُسُس التعليم والاقتصاد فيها وثوابت مُجتمعاتها، وضرب القِيَم والمبادئ والأخلاق، وتدمير أيِّ قوَّة صاعدة، لا يمكنه الاستمرار والبقاء، فالتآكل والانهيار من الداخل حاصل لا محالة، ودُونِ أيِّ جهد عربيٍّ وإسلاميٍّ لإزالة الغدَّة السرطانيَّة من الجسم العربيِّ.
ومَنْ يتابع سرادق العزاء في )تل أبيب( وردود الفعل الإسرائيليَّة والأميركيَّة حَوْلَ الاتِّفاق السعوديِّ ـ الإيرانيِّ بعودة العلاقات يقف على حقيقة السياسات الصهيوـ أميركيَّة، وأنَّها سياسات هادمة لكُلِّ مظاهر التنمية والاستقرار والتقدُّم والتطوُّر لدوَل المنطقة، وقائمة على بقاء كيان الاحتلال الصهيونيِّ القوَّة الأوحد والحفاظ على أمنه، ومواصلة نهب ثروات شعوب المنطقة ومقدَّراتها، ومنْعِ أيِّ توجُّه يعمل على بناء أبنائها تعليميًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وأخلاقيًّا؛ حتَّى لا يكونوا قوَّة بشَريَّة وعلميَّة واقتصاديَّة منافِسةً أو مُهدِّدة؛ لذلك لَمْ يكتفِ الصهيوـ أميركيُّ بمراقبة ومراجعة مناهج التعليم في المنطقة، وإنَّما سَعَى إلى فرض التطبيعِ وما يُسمَّى بـ”اتفاقيَّات أبراهام”. وفي أوَّل ردِّ فعلٍ رسميٍّ إسرائيليٍّ على استئناف العلاقات السعوديَّة الإيرانيَّة، عدَّ مسؤول إسرائيليٌّ في إحاطة رسميَّة أنَّ الاتِّفاق بَيْنَ الطرفَيْنِ سيؤثِّر على إمكانيَّة تطبيع العلاقات بَيْنَ الرياض و)تل أبيب(. في حين أنَّ زعيم المعارضة الإسرائيليَّة يائير لبيد وصفَ إعادة العلاقات بَيْنَ السعوديَّة وإيران بأنَّها «فشل ذريع وخطير للسياسة الخارجيَّة للحكومة الإسرائيليَّة» التي يتزعَّمها حاليًّا بنيامين نتنياهو. أمَّا رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، فقال إنَّ «تجديد العلاقات بَيْنَ السعوديَّة وإيران، هو تطوُّر خطير بالنسبة لـ(إسرائيل) وانتصار سياسيٌّ بالنسبة لإيران». وعَدَّ أنَّ استئناف العلاقات الإيرانيَّة السعوديَّة يُشكِّل «ضربة قاضية لجهود بناء تحالف إقليميٍّ ضدَّ إيران»، وشدَّد على أنَّ ذلك «فشل ذريع لحكومة نتنياهو، نجَمَ عن مزيج بَيْنَ الإهمال السياسيِّ والضَّعف العامِّ والصراع الداخليِّ في (إسرائيل)». كما عقَّب رئيس لجنة الشؤون الخارجيَّة والأمنيَّة في الكنيست الإسرائيليِّ، يولي إدلشتاين، قائلًا إنَّ «إيران والسعوديَّة اتَّفقتا الآن على تجديد العلاقات بَيْنَهما وهذا أمْرٌ سيِّءٌ للغاية بالنسبة لـ(إسرائيل) والعالم الحُرِّ بأسْرِه». وأضاف «حان الوقت للجلوس والتحدث وحلِّ خلافاتنا من أجْلِ لَمِّ شملنا واتِّحادنا ضدَّ التهديد الوجوديِّ الذي نواجهه». وبدَوْرِه، وصفَ وزير الحرب السابق بيني جانتس الاتِّفاق بالتطوُّرات المقلقة، وأشار إلى أنَّ التحدِّيات الأمنيَّة الجسام، التي على (إسرائيل) التعامل معها، تزداد.
إذًا، وأمام هذه الحقائق الخاصَّة بأهميَّة بُؤر الصراعات والخلافات والفِتن والحروب لدى الصهيوـ أميركيِّ ودَوْرِه في تأجيجها واستثمارها استعماريًّا، يبقى الاتِّفاق الثلاثيُّ على محكِّ الصمود وتنفيذ مفاعيله في صُوَرِه الدبلوماسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة والسياسيَّة، وعكْسِ هذه المفاعيل على الملفَّات الساخنة في المنطقة كالملفِّ اليمنيِّ والسوريِّ واللبنانيِّ، وتفويت الفرصة على المُستعمِرين الذين سقطت الأقنعة عن وجوههم، وانكشفت سوءاتُهم، فضلًا عن المنافع الكبرى التي ستجنيها دوَل المنطقة من حلحلة هذه الملفَّات، ومن حالة التقارب والدفء في العلاقات والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في شؤون الغير، وتبادل المصالح.
على الجانب الآخر، يُظهِرُ الاتِّفاق الثلاثيُّ أنَّ جمهوريَّة الصِّين الشعبيَّة قادمة بقوَّة، وأنَّها القادرة على ملء الفراغ وسحب البساط من تحت أقدام الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة رويدًا رويدًا، مدعومةً في ذلك بتحالفاتها مع القوى الصاعدة كروسيا الاتحاديَّة والجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، وعلاقاتها الجيِّدة مع دوَل القارَّة السمراء، لا سِيَّما فيما يتعلَّق بمجال الطَّاقة، والمُضيِّ قُدمًا في مشروعها طريق الحرير، ما يعني أنَّ المنطقة والعالم مُقدِمان على تطوُّرات كبرى إذا ما حالف هذه التطلُّعات الجديدة النجاح.