هذه الأيام، كان الله في عونك إذا كان لك ولد أو بنت في الجامعة، أما إذا كانوا اثنين أو ثلاثة فعندها لا بدّ وأن تغرق بالدين وتعاني الأمرّين، يحدثوننا عن دول فيها التعليم الجامعي مجانيّ مثل الجزائر ثم ننظر لنرى كم هو عندنا حجم التجارة الجامعيّة، وكم هو حجم التداول التجاري باتجاه واحد من جيوب الناس الخاوية ذوي الطلبة، إلى حسابات الجامعات عندنا، فبعد نجاح الطالب في التوجيهي تبدأ مأساة التعليم الجامعي وهمومها التي تكاد لا تطاق، فمع الضائقة المعيشية لأغلب الناس في واقع اقتصادي في غرفة الإنعاش أو في حالة موت سريري، فإن معركة جديدة تُفتح على العائلة عندما تتشرّف بوجود طالب جامعي من بين أعضائها، والجامعات عندنا لا يوجد عندها " يمّة ارحميني".
بداية هناك مشكلة عندما يكون القطاع الجامعي غير مدعوم، فلا تجد الجامعات من مصادر الدعم سوى جيوب أهالي المنتسبين إليها والانقضاض على رواتبهم التي لا تكاد تغطّي الاحتياجات الأساسية لعائلاتهم، خاصة بعد الغلاء الذي أصاب البلد بعد كورونا فرحلت السيدة كورونا، وبقي الغلاء، فبدل صرف علاوة غلاء المعيشة يجري الخصم من الرواتب، وحال البلد اقتصاديًا في انهيار، ومع هذا تبقى الأقساط الجامعية في ارتفاع مستمر لا يتوقّف.
لا أريد هنا بحث كلفة الأقساط وهموم ضخّ الآلاف من الخريجين في تخصّصات قد ارتوت البلد منها، ولم تعد بحاجة إلى هذا الكم الهائل المتفوّق على حاجة السوق أضعافًا مضاعفة، ولكن ما دام أن الحالة هكذا دعونا نسأل هذا السؤال (وخذونا على قدر عقولنا) لماذا تصرّ جامعاتنا الموقّرة على مساقات تسمّى متطلبات جامعية وهذه أغلبها لا علاقة لها بالتخصّص الذي اختاره الطالب، تجد مثلًا في الطب قرابة خمسين ساعة من هذا القبيل، وتلزمه الجامعة بها كثقافة عامّة فيزداد هو وأهله رهقًا وتمعن في إغراقهم بديون لا قبل لهم بها، ليقف خبير في التعليم وليقنع الطلبة وأهله بأهمّية هذه المتطلبات التي لا علاقة لها بالتخصص؟ هل تبني بذلك شخصية الإنسان الذي نريد وفق فلسفة تربوية وتزوده بالمهارات والخبرات اللازمة التي تجعل منه مواطنًا صالحَا مثقفًا واعيًا؟ اليوم حجم الانفتاح في عالم النت يزوّد طلبتنا بما نريد وما لا نريد وأصبحت هذه الثقافة التي يتزوّد بها ما يسمى: "متطلبات جامعة" نقطة في بحر هذه الثقافة الواسعة، وإنّ أنشطة غير منهجية وغير مكلفة على هامش دراسته الجامعية قد تزوّده بالثقافة والخبرات أضعاف ما تزوده هذه المتطلبات، ولكن هذه لا تعود بالفائدة الماديّة على الجامعة في حين تلك تمثل حقل نفط للجامعة، إذ لو حسبنا دخل الجامعة من هذه المتطلبات لرّأينا حجم هذا الدخل المريع، الجامعة تستفيد مادّيًا والطالب مع أهله يُستنزفون كثيرًا، والنتيجة لا تذكر سوى مضاعفة حجم الغضب في صدور الذين تقع عليهم عصيّ ما يسمّى "متطلبات جامعة".
آن الأوان أن نحرّر جامعاتنا من هذه الأغلال التي تثقل كاهلنا دون فائدة تذكر، خاصّة ونحن نشهد المزيد من المعاناة، والتحدّيات القاسية التي يواجهها المواطن الفلسطيني، فلا أقلّ من أن نكون رحماء بيننا، لنرحم من في الأرض كي يرحمنا من في السماء.