البوص هي نبتة تنمو في الأرض الفلسطينية مثلها مثل كثير من النباتات التي تختلف استخداماتها ووسائل الانتفاع بها، ولما كانت هذه النبتة ضعيفة الأغصان لكونها مجوفة من الداخل على الرغم من الرونق والجمال ونعومة الملمس الذي تميزت به، فقد اتخذها الفلسطينيون أداة من أدوات الطرب، فصنعوا منها اليرغول، وهي الأداة الموسيقية الأشهر فلسطينيًا لجمال الأصوات التي تخرجها عند النفخ فيها في الأفراح الفلسطينية التي تُغنّى فيها أهازيج ظريف الطول والعتابا والميجنا، وعلى الرغم من هذا الدور الطربي الذي تؤديه هذه النبتة بكفاءة فإنها لا تقوم مقام أشجار أو نباتات أخرى تستخدم في مواطن الشدة والقوة كأعمدة الخيام أو أوتادها أو أي شيء ممكن أن يعول فيه على القوة والمتانة، ولذلك كان المثل الفلسطيني الشهير أن "البوص ما بندق أوتاد" لأنه سينكسر عند أدنى ضغط، ومن ثم انهيار الخيمة فوق رؤوس ساكنيها أو تطايرها مع العواصف التي قد تضربها.
القيادة الرسمية الفلسطينية مثلها تمامًا كمثل البوص، لا يعول عليها في مواطن الشدة والبأس، لأنها تنكسر عند أدنى ضغط، قد نسمع منها كلمات منمقة جميلة، وقد نرى لقاءات وعلاقات دبلوماسية كثيفة، لكنها في النهاية لا تصمد أمام أي ضغط، فتنكسر وتترك الخيمة الفلسطينية لتنهار فوق رأس الشعب الفلسطيني أو تتطاير الخيمة بكليتها تحت تأثير العواصف والأنواء، لأن أوتادها كانت من البوص وليس من شجر الزيتون الذي يكثر في أرض فلسطين.
في حركة بهلوانية مكررة قبلت القيادة الرسمية الفلسطينية أن تخضع للضغط الأمريكي مرة أخرى/ وتخلت عن مسؤوليتها الوطنية، ولم تكن أمينة على مصالح الشعب الفلسطيني عندما قبلت أن تستبدل التصويت على إدانة الاستيطان الصهيوني في مجلس الأمن ببيان يصدر عن رئاسة المجلس ليس له أي أثر قانوني أو سياسي.
هذه ليست المرة الأولى التي تصدم القيادة الرسمية الفلسطينية الشعب الفلسطيني بتصرفاتها التي لا ترقى البتة إلى مستوى التضحيات العظيمة التي يقدمها يوميًا شعبنا راضيًا على مذبح حريته واستقلاله، بل لقد أصبحت مشاهد البطولة والفداء التي تنقلها أجهزة الإعلام للعالم تكاد تكون ميزة حصرية للفلسطيني، وفي المقابل نرى كل هذا التراجع والهزال في مواقف القيادة الرسمية التي فرضت نفسها على شعبنا.
كثيرة هي المرات التي خذلت فيها القيادة الرسمية بقيادة أبو مازن شعبنا، ليس بدءًا بالإصرار على التنسيق الأمني مع الاحتلال ضد المقاومة، ومرورًا بالإحجام عن اتخاذ الوسائل والإجراءات القانونية لمحاكمة الاحتلال على جرائمه أمام المحافل الدولية، وقضية نقل السفارة الأمريكية للقدس وقضية شيرين أبو عاقلة، كما أن إحالة ملفات جرائم الاحتلال للجنائية الدولية ما تزال حاضرة ولم تتغير لتبقى شاهدًا على الخضوع للإرادتين الصهيونية والأمريكية، وليس انتهاء بالهزل الدبلوماسي الذي كان بالأمس حينما قبلت السلطة أن تستبدل بالتصويت في مجلس الأمن على إدانة الاستيطان بيانًا رئاسيًا عن المجلس.
أبو مازن يعلم جيدًا أن الإدارة الأمريكية لا تفي بوعودها، وفي الوقت ذاته لا تمارس ضغطًا يُذكر على الحكومة الصهيونية، ولو أن الإدارة الأمريكية كانت وفيّة ولو بالحد الأدنى لما تعهدت به مرارًا وتكرارًا أو أنها مارست أي نوع من أنواع الضغط، ولا يقصد هنا الضغط العسكري -معاذ الله- بل مجرد بعض من ضغط اقتصادي أو دبلوماسي، لكانت الأمور أفضل بكثير مما نحن عليه الآن، فكم من الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي كانت على الدوام تبدأ ولايتها بتأكيد حل الدولتين -باستثناء ولاية ترامب طبعًا- لم نجد أي ملمح لدولة فلسطينية حتى هذه اللحظة، بل إن الإدارة الأمريكية كانت تعد على الدوام أن توجه السلطة للمحافل الدولية وفقًا للقانون الدولي الذي صاغته دول العالم التي تصف نفسها عادة بالدول المتحضرة وعلى رأسها الولايات المتحدة، خطوات أحادية الجانب تضر بحل الدولتين، في حين كانت تغمض عينها عن جرائم الاحتلال مهما بلغت قسوتها، بل وعند الحاجة كانت تتماهى مع سياسات الاحتلال الإجرامية فتصف جرائمه بحق شعبنا، -التي وصفتها التقارير الدولية بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية- بأنها "حق لإسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بل إن الإدارة الأمريكية غضت الطرف بل تواطأت على اغتيال الراحل ياسر عرفات حينما قرر أن يوقف المهزلة التي أراد الاحتلال أن يغرقه فيها إلى النهائية.
القيادة الرسمية الفلسطينية تثبت مرة أخرى أنها بعيدة كل البعد عن نبض الشارع الفلسطيني، وهي معزولة تمامًا عن حركة الجماهير الفلسطينية التي تسعى إلى الحرية والاستقلال، بل تتخذ مواقفَ أقل ما يقال فيها أنها ليست أمينة على مصالح الشعب الفلسطيني ولا تمثله، وفي السياق ذاته ما تزال تتشبث بالمسؤولية وتحول دون أي محاولة إصلاح أو تغيير بالانتخابات، فهل قدر شعبنا أن تبقى أوتاد خيمته وأعمدتها من البوص؟