فلسطين أون لاين

الاستشهاد فوق أرض مقدسية..

هزتني مثل كل مواطن عربي صورة الشاب خيري علقم متصدرة أخبار العالم، وهو يهوي برؤوس اليمين المتديّن والفاشي بعد أيام من تولي السلطة في الأرض المحتلة، وفهمت كما فهم غيري أن المقاومة الفلسطينية ولودة بلا شح ولا ظنّ، كيف وهي الموعودة بالرباط الشريف في أكناف بيت المقدس، ودار بخلدي معنى حديث نبوي عن أفضل بقاع الأرض فكان الأقصى إحداها، فأي معنى يستشف من خرق منظومة أمن الاحتلال على أرض القدس بالذات؟

القدس في العقلية الأمنية الصهيونية تتجاوز ضبط الأوضاع والتحكم في حركة الفلسطينيين على مختلف الصعد الاجتماعية والثقافية والأمنية، لتبلغ حدّ التحكم في الصورة والرمز والدلالة، فهناك إصرار ليس وليد اليوم على اقتطاع القدس رمزيًا من بقية امتدادها المعنوي مع أحداث الضفة خصوصًا وفلسطين عمومًا، لإضفاء تصور يجعلها هادئة حد الاستسلام ومندمجة حد الامتثال كنموذج للانخراط السلس في القالب الحياتي الذي وضعه العقل الاحتلالي، هذا العمل الدؤوب على فصل القدس رمزيًا عن الجسم الفلسطيني يستهدف تعميم شعور بتمايز المقدسيين عن بقية الفلسطينيين في حالات السلم أو الانتفاضات أو على الخصوص إبان الهجمات والحروب على قطاع غزة، إن أشد ما يركز عليه الاحتلال هو عدم تفاعل المقدسيين مع أحداث غيرهم من الفلسطينيين، ولربما اعتقدنا في كل سياق كالذي ذكرنا أن المقدسيين غائبون عن الأحداث، ولربما ركن الاحتلال نفسه إلى مثل هذا الاعتقاد الذي لا يعكّره سوى المستوطنين وهم يقتحمون الأقصى فيستثيرون حمية المقدسيين، وهنا تكون حكومات الاحتلال المختلفة في مأزق دائم بين الحفاظ على سلام القدس وهدوء المقدسيين، المقتطع من الحراك المحيط بها والمطلوب تمهيدًا للاقتطاع الجغرافي والسياسي، وبين هوس المستوطنين بالشغب على البلدة المقدسة وإبراز وجودهم في باحات أقصاها.

في مقابل سياسة الاستفراد بالقدس وتمييزها، عملت المقاومة من غزة والحركات الفلسطينية وخاصة داخل الخط الأخضر على تخريب الإستراتيجية الصهيونية، فغزة في مواجهاتها العديدة حرصت إلى جانب الرد العسكري على توجيه الأنظار إلى القدس وسكانها، معلنة التضامن أو مهددة بكسر حالة التهدئة لفكّ ذلك الاستفراد، ولطالما وُضع الأقصى والحفاظ على الزمن والمكان خالصين لأصحابه ضمن شروط التهدئة. وكذلك عملت الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر على كسر الطوق حول القدس والمقدسيين وجعلت من الرباط في الأقصى تحركًا نشطًا ودائمًا كان له أثر بالغ في تخريب عديد الخطط التي استهدفت التضييق عليه.

بناء على هذه الثنائية الصراعية المحتدمة، تأتي أهمية كل فعل وحركة في نطاق القدس، من أبسط فعل كضربة سكين أخطأت هدفها، إلى رشة مسدس حصدت عددًا غفيرًا من المستوطنين كما فعل خيري علقم مؤخرًا، يهتز الاحتلال  وداعموه، هزة دافعها انهيار صورة رمزية لبلدة ساحرة هادئة خارجة عن سربها مستسلمة لقدرها، فإذا بها صورة خادعة مؤقتة كما يخادع كل مغلوب غالبه متحينا لحظة غفلته ليفتك حقه المسلوب، عمليتا القدس الأخيرتان تقرآن على هذا الصعيد المؤلم للاحتلال، صعيد الدلالة القاسية أن القدس باقية نابضة في جسمها المقاوم الحي، وشبابها يختزن مثل كل الشباب الفلسطيني جرعته الوطنية اللازمة والقادرة على تحريك شعوره بالفداء في اللحظات الحاسمة وشديدة الضيق كما هي الحال الآن.

فقد صعد اليمين الفاشي إلى الحكم عبر خطاب أخرج كل ما في جعبته من عنصرية وحقد على الوجود الفلسطيني، وما كان يقال على هامش الحياة السياسية في الكيان المحتل، فيتداول بين مكونات الطوائف الدينية المتطرفة أو على ألسنة المستوطنين الذين يتقدمون بطبيعة حالهم صفوف العدوانية والاستئصال لكل ما هو عربي فلسطيني، أصبح بكل مفرداته المشحونة جزءًا من خطاب النخبة الحاكمة تواجه به العالم كلّه دون خجل ولا مواربة.

ولأن هذا الصعود عدَّ ذروة القوة بالنسبة للمشروع الاحتلالي والاستيطاني، خاصة وأن رموزه لم يكفوا عن وعودهم لأنصارهم ووعيدهم للفلسطينيين، فقد جاء العمل الفدائي الأخير في الذروة المكافئة ليفتت الحلم الكاذب، ويخرس الخطاب الاستيطاني المتبجح، فالأمن الموعود بواسطة قبضة أمنية أشدّ، واقتطاع متواصل للقدس عن محيطها، لم يكن إلا بناء واهما على مقدمات خاطئة أولها: الاعتقاد بوهن العلاقة بين القدس وجنين، فقد ضرب الاحتلال بلا رحمة شباب المقاومة في المخيمات وأراد أن يجعلهم صورة رمزية لما هو قادم من مصير لكل من يزعج السلطة المتطرفة الجديدة، وظن الاحتلال أن الدخول إلى جنين والخروج منها سيمر كالمعتاد، ضحايا من طرف واحد، و”تجاوزات” سيتم التحقيق فيها لإثبات أن جيش الاحتلال أكثر جيوش الدنيا إنسانية وتنتهي القصة الجميلة،

لكن لسوء حظ الجناة البغاة، جاء الرد غير منتظر مكانًا ودلالة: من القدس بالذات، على يد شاب من جيل تعدّى الصفوف القديمة ليرسم خطًا جديدًا يدخل بالفعل المقاوم أزقة القدس وقلوب شبابها، فخط الفداء والمقاومة والاستشهاد لا يتطلب عضوية تنظيم ولا راية فصيل ولا تزكية قائد، وكل ما في القدس يحرض على النهوض وكل يوم من يوميات الفلسطيني يكفي لاستنهاض بطل جديد، وكانت الدلالة أقسى وقعًا وهي ترتسم على وجوه اليمين الإجرامي الحاكم في تلك الليلة المهيبة، لقد سقط خطاب الذروة الاستيطاني وكُسر المنحنى المتباهي بالإنجاز الانتخابي ليقع تحت قدم الشاب المقدسي، تكرست على يد خيري علقم وهي تضغط سلاحها هوية القدس الدائمة وانخراطها المستميت في الفعل المقاوم، تجدد القدس ذاتها في قلب الصراع ويستبسل المقدسيون في تأكيد ذلك بالأرواح والمعاناة الفريدة.

وعودًا على بدء، ليس العمل على أرض مقدسية ككل عمل ولا استشهاد مقدسي ككل استشهاد، إنه بالضبط استشهاد وإشهاد على أنها في الليلة الحالكة تضيء ببهائها لتنير طريق الآمال العريضة، وتهوي بأحلام الغزاة كما فعلت عبر السنين.

رحمة الله على خيري علقم وعلى كل شهداء فلسطين البررة.

المصدر / رأي اليوم