قطار التطبيع عاد إلى الخدمة من جديد بعد توقف بسيط، إذ شهدت الخرطوم لقاءً جمع رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح برهان بوزير خارجية دولة الاحتلال إيلي كوهين، وتم الاتفاق على الخطوط العريضة لاتفاق التطبيع المتوقع التوقيع عليه رسمياً بعد عدة أشهر في واشنطن.
التطبيع مع السودان مختلف كثيرًا لـ (إسرائيل) عن التطبيع مع غيرها من الدول، وسبق أن وصفته بالتاريخي، فهذه الدولة التي احتضنت قمة اللاءات الثلاث بعد هزيمة حزيران 1967م، واحتضنت منظمة التحرير الفلسطينية، وبعدها حركة المقاومة الإسلامية حماس، وسمحت بأن تكون أراضيها ممرًّا للسلاح الذي يصل عبر ميناء بور سودان على البحر الأحمر، وأن تحتضن كوادر الحركة وعناصرها وتفتح لهم جامعاتها، وتعاملهم كالمواطنين السودانيين، كل ذلك في نظر (إسرائيل) سيتوقف تدريجياً بعد توقيع اتفاق التطبيع واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين (تل أبيب) والخرطوم، ولا سيما أن القرار الأمريكي السابق الذي بموجبه تم رفع السودان من لائحة الدول التي تدعم ما يسمى "الإرهاب" من المنظور الأمريكي.
السؤال المطروح: كيف قبلت دولة اللاءات الثلاث التطبيع مع الاحتلال؟ وما المطلوب فلسطينياً وعربياً؟
لا أحد ينكر آثار الحصار الظالم المفروض على السودان، وتداعياته على الشعب السوداني الذي عانى وما زال يعاني دون أدنى تحرك من الدول العربية والإسلامية وحتى بعض أقطاب النظام الدولي من غير المعسكر الأمريكي، ولكن يبقى السؤال: هل إذا طبعت الخرطوم سيزول الحصار وسنرى تنمية حقيقية في السودان؟ في تقديري لا، ربما يتحسن الوضع الاقتصادي قليلاً بالمقارنة مع المراحل السابقة، ولكن لن تسمح الولايات المتحدة و(إسرائيل) لأي دولة عربية أن تعيش حالة استقرار سياسي واقتصادي وتنموي، لأن في ذلك تهديدًا لها ولأمنها القومي، وعليه فإن اتفاقيات التطبيع سيكون ضررها أكبر من المنفعة التي ستحققها، كيف؟ ولماذا؟
أولاً- الأضرار المترتبة على التطبيع:
(إسرائيل) تنظر إلى التطبيع من ثلاثة أبواب، الأول: باب الشرعية، فدولة الاحتلال الإسرائيلي تعاني عقدة الشرعية، والمزيد من اتفاقيات التطبيع يخلص (إسرائيل) تدريجياً من هذه العقدة، ويمنحها قوة وهيمنة في المستقبل على المنطقة ومواردها، وهذا أكبر تهديد للأمن القومي العربي ومشروعه النهضوي.
والثاني: باب الأمن، فـ(إسرائيل) تنظر إلى التطبيع مع السودان وعينها على موقع السودان الجيوسياسي ومدى قدرة (تل أبيب) على توقيع اتفاقيات أمنية بموجبها تراقب (إسرائيل) التحركات في البحر الأحمر، وتمنع تهريب السلاح منه إلى قطاع غزة، وكذلك تراقب كل تحركات الأعداء عبر قواعد عسكرية للموساد شبيه بالقواعد المقامة على أراضي أريتريا، وهذا يمنح (إسرائيل) تفوقاً عسكرياً في المنطقة يضر بالأمن القومي العربي والإسلامي.
والثالث: الاقتصادي، إذ يشكل السودان أرضاً خصبة للاستثمار والتنمية، وسوقاً مهماً لـ(تل أبيب)؛ لوفرة المياه وخصوبة التربة، وعليه ستوظف (إسرائيل) ورقة تكنولوجيا الزراعة في ربط اقتصاد الخرطوم مع (تل أبيب) وهذا يجعل منها دولة تابعة للصناعات الإسرائيلية، ورغم الفائدة التي ستعود على السودان فإن الفائدة السياسية على (إسرائيل) ستكون أكبر، ولا سيما عند مقايضة الخرطوم مستقبلاً ورقة التنمية مقابل السلوك التصويتي للخرطوم في المحافل الدولية، وهذا سيضع السودان في تحدٍّ واضح مع هويتها.
ثانياً- المطلوب فلسطينياً وعربياً:
لا يمكن أن نلقي بحمم تصريحاتنا على الدول المطبِّعة، بالرغم من أهمية إدانة التطبيع، بل وتجريمه، ولكن بخطى متوازية ينبغي أن ندرك أن (إسرائيل) تشتري التطبيع منا نحن الفلسطينيين عبر شراء الهدوء، وبقاء حالة الانقسام، ولا يمكن إيقاف التطبيع إلا عبر أربعة إجراءات هي:
1. العمل الجاد والسريع على إنهاء الانقسام.
2. الذهاب للانتخابات لكل المؤسسات السياسية الفلسطينية بالتزامن.
3. التوافق على بدء انتفاضة شعبية، مع ضرورة تطوير دبلوماسية جديدة يندمج فيها الشعبي مع الرسمي للتأثير في مكونات الدول وأحزابها ومجتمعها المدني ولا سيما الدول التي طبعت والتي تنتظر.
4. مطلوب من الدول العربية والإسلامية إسناد السودان والتمرد على حصاره، وإنقاذه اقتصادياً عبر خطة محكمة بالتنسيق والتوافق مع المعسكر الآخر روسيا والصين.
في الختام فإنني أبرق رسالة إلى كل القيادات الفلسطينية الرسمية والشعبية والفصائلية بالقول: أخشى ما أخشاه أن يلتحق بقطار التطبيع جزء كبير من دولنا العربية، وأن تبدأ رحلة جديدة بعد التطبيع، وهنا مكمن الخطورة التي تتمثل في استبدال ممنهج بين الولايات المتحدة و(إسرائيل) يقوم على أن تتولى (إسرائيل) حماية الأنظمة السياسية المطبّعة، عبر توقيع اتفاقيات "دفاع مشترك" بين (إسرائيل) وهذه الدول، وحينها ينبغي أن نضع في حساباتنا سيناريو أن تطلب (إسرائيل) وفقا لهذه الاتفاقيات أن تتدخل لحمايتها من عمليات المقاومة الفلسطينية المنطلقة من قطاع غزة، أو غيرها من المدن الفلسطينية أو اللبنانية.