مقتفياً خطوات عدي التميمي، ومن قبله مصباح أبو صبيح وفادي أبو شخيدم، وغيرهما، امتشق ابن القدس البطل خيري علقم مسدّسه ونفّذ عمليته البطولية مساء الجمعة الماضية، وهي واحدة من أكثر عمليات المقاومة نوعية في السنوات الأخيرة، بالضفة الغربية والقدس.
فهي نوعية في حصيلتها، وفي توقيتها المدهش الذي جاء بعد يوم واحد فقط من المجزرة التي نفّذها جيش الاحتلال في جنين، ونوعية في مكانها، وفي العنصر المنفذ لها، وهو يعدّ جديدًا وغير معروف، ولم يكن من ضمن العناصر التي يضعها جيش الاحتلال على أجندة التصفية أو الاعتقال، أو حتى التعقّب.
اقرأ أيضاً: عمليات بطولية متواصلة.. القدس تُضمّد جراح أهالي شهداء جنين
ثمَّ إن تنفيذها بعد المجزرة الصهيونية من شأنه أن يكبح جماح نزعة التطرف الرعناء التي تتبجح بها أركان الحكومة الصهيونية، عبر تلويحها بقبضة حديدية صارمة في التعامل مع الفلسطينيين، تستهدف الإنسان والأرض والمنشآت، ولا سيما مع موجة الغضب التي اجتاحت قطاعًا من الشارع الصهيوني، ولكن هذه المرة على إيتمار بن غفير وحزبه، بتحميلهم مسؤولية انتقال كرة العنف إلى أوساطهم، أي أن التوقيت هنا كفيل بتغذية الخلافات السياسية داخل الشارع الصهيوني، خصوصًا إذا ترافق ذلك الخلاف مع تهتّك في المنظومة الأمنية وتصدّع جدار الهدوء داخل الكيان.
ومع كلّ هذا، يقول ظاهر المشهد إن بن غفير قد ازداد عُنفاً وتطرفاً وعزماً على الفتك بعد العملية، بعد تصريحاته المتطايرة في كل اتجاه وعمله على تسريع وتيرة الهدم، سواء كانت لبيوت المنفّذين أو للمنازل المبنية (بدون ترخيص) وفقاً للمعايير الإسرائيلية، إضافة إلى تلويحه بنيته العمل على إقرار قانون بنفي ذوي منفذي العمليات، وإعدام الأسرى المتهمين بقتل إسرائيليين، وغير ذلك من تهديدات يومية لا يتقن بن غفير سواها.
لا تجد أي حكومة صهيونية خياراً للتعامل مع الفلسطينيين أفضل من الفتك المستمر بكل شيء، ومعاجلة كل محاولات وبوادر المقاومة بالقوة، وهي ترى دائماً أن شدة القمع تردع أعداءها، وتثبّت معادلة التفوق لصالحها، وتحملهم على التفكير طويلاً قبل الإقدام على مواجهتها أو التخطيط لذلك.
لكنها من جهة لا تعتبر بالماضي، إذ كان الدم دائما يستدعي الدم، والقمع يولّد الغضب، فيما الغضب المتراكم ينتج الفعل، ويوسّع دائرة المستعدّين للانخراط في مسار المقاومة، وقبل ذلك يصنع البيئة الشعورية الملتهبة، المناسبة لإذكاء جذوة المقاومة والحاثة عليها.
وهي من جهة أخرى لا تدرك أن العمليات النوعية ذات الطابع الفردي أخطر عليها من تلك المنظمة، لأنها يمكن أن تستنزف تنظيماً مقاوماً وتلاحقه وترصد أفراده وتجرّده من أدوات الفعل، ولا سيما في الضفة الغربية، إذ تعاني المقاومة المنظمة فيها من ملاحقات السلطة أيضًا، لكن مخابرات الاحتلال لا يسعها التعامل الحاسم مع عمليات تأتيها من حيث لا تحتسب، زماناً ومكانًا، ومن عناصر لا تتوقّعهم، فالعنصر الذي يخطط وحده وينفّذ عمليته متحللاً من حسابات كثيرة، ومنطلقاً من استشعاره الذاتي بالواجب المقاوم سيظلّ موجودًا ولن يفنى، بل إن شدة الترهيب والإجرام ستزيد من إمكانات زيادة هذه النوعية من المنفّذين، وهي ما يطلق عليها اليوم (ظاهرة الذئاب أو الأسود المنفردة)، كما أن نجاح هذه العمليات في إيقاع خسائر كبيرة في صفوف الاحتلال يصنع حالة إلهام مهمّة لدى الشباب، ويقدّم لهم دروساً تلقائية في ضرورة الاعتناء بحسن التخطيط والإعداد قبل التنفيذ، فكيف ستواجه مخابرات الاحتلال وجيشه هذه الحالة إن تعمّقت واستمرت؟
اقرأ أيضاً: 8 عمليات إطلاق نار من أصل 27 عملاً مقاوماً بالضفة خلال 24 ساعة
بالنسبة للمقاومة وآفاق تطوّرها ودوامها، فلا غنى لها عن الأنماط المنظمة، وعن ضرورة الدفع باتجاه إدامة حالة المقاومة، لكنّ واجبها اليوم أن تتخلّص من ثغرات الانكشاف العديدة، ومن كثافة العمل الاستعراضي على حساب النوعي، وأن تأخذ العبرة من كل عمليات الأسود المنفردة، ومن عوامل نجاحها في الإثخان في صفوف الاحتلال، فالتجربة ما تزال تثبت أن النمط السري والخلايا صغيرة العدد هي التي تناسب واقع الضفة الغربية والقدس في هذه المرحلة، وهي التي تنتج عملًا مقاومًا نوعيًا يُدمي جبهة الاحتلال، ويساهم مع الوقت في ردعه، وفي تثبيت معادلات جديدة، وفي التقدّم الحقيقي وليس الوهمي في مشروع التحرير ومساراته.