"يا نفس إلَّا تُقتلي تموتي، ونحن لا نرفع أيدينا إلا لله، ولا نسجد إلا لله، ولا نسمع إلا من رسول الله" هذه الكلمات رسالة صوتية تركها الشهيد خيري علقم (21 عامًا)، الذي يسكن حي الشيّاح في القدس المحتلة، وهي آخر ما نشره في تطبيق "تيك توك"، أبقى كلماتها مشفرة، فسرت دلالتها بعد تنفيذه عملية بطولية في بلدة بيت حنينا، أدت إلى مقتل 7 مستوطنين، وإصابة عدد آخر.
أمست فلسطين الخميس الماضي، جريحة وحزينة، تتزاحم الأوجاع في صدور أبنائها، وتكتوي قلوبهم بنيران الغضب والألم، ملأت الدموع عيون أمهات ودعَّن عشرة شهداء في الضفة الغربية، بينهم 9 في جنين في إثر مجزرة إسرائيلية، خرجت على أثرها مسيرات غاضبة تطالب بالثأر.
اقرأ أيضاً: الاحتلال يُغلق منزل الشهيد خيري علقم بالقدس المحتلة
بعد غروب شمس يوم الجمعة 27 من يناير/ كانون الثاني الجاري، أعاد الشاب العشريني فرحة غابت ليلة كاملة، أو منذ مطلع العام عن أبناء شعبه، وثأر لدماء الشهداء.
انطلق بمركبته نحو مستوطنة "النبي يعقوب" الجاثمة على أراضي بلدة بيت حنينا شمال مدينة القدس المحتلة، وخرجت رصاصات من مسدسه تحمل غضبًا جهنميًّا على الاحتلال ومستوطنيه، موقعًا قتلى في صفوف المستوطنين.
بعملية ضمَّد فيها ابن القدس المحتلة جراح أبناء شعبه، وبرَّد قلب أمهات شهداء جنين، اللواتي جففن دموع الحزن، ووزعن الحلوى، وانتشين بالفرح والنصر، صدحت التكبيرات في كل مكان في فلسطين، تزفه المآذن بعدما زفت الشهداء.
على وقع التكبيرات وتوزيع الحلوى وإطلاق العنان للألعاب النارية وأبواق السيارات، خرجت المسيرات تجوب الشوارع ابتهاجًا بالعملية، التي جاءت في وقت أوغل الاحتلال في إجرامه، وتمادت قيادته المتطرفة في ظلمها للشعب الفلسطيني، وظنوا أن أوهامهم ستحقق على جراح المدنيين، ليضربهم "علقم" الحفيد في الخاصرة، ويذيقهم من كأس المُر والهزيمة، وتغمر الفرحة قلوب أبناء شعبه.
عريس فلسطين
كان الوالد ينتظر أن يزف نجله عريسًا، ولم يدرِ أن الأخير رسم مراسم زفاف تختلف طقوسها عن تلك التي رسمها ولي أمره، يعقب بصوت أنهكه التحقيق، والاستدعاءات المتواصلة من قوات الاحتلال، بعينين لم يزرهما النوم ليلة كاملة: "كأنني زوَّجته اليوم، ولو لدي مقدرة لدعوتُ كل الناس إلى هذا العرس، الله اختار لابني الأفضل، الكل يشهد له من الصغير والكبير بأخلاقه".
لم تمضِ دقائق على تنفيذ العملية، حتى استُدعي علقم الأب من قوات الاحتلال، يوضح بصوته الذي امتزج بين الحزن على رحيل نجله، والقهر على ما جرى معه: "استدعوني إلى مكان العملية، وبقيت ساعتين هناك، وعدت إلى المنزل، ثم استدعيت إلى مركز تحقيق "المسكوبية" وغادرت صباحًا".
اقرأ أيضاَ: "حماس" تبارك عملية القدس البطولية وتزفُّ منفذها الشهيد خيري علقم
"سألني الضابط عن انتماء خيري، فقلت له: اسأل بكل الحارة، لا يوجد له انتماء، وهذا أنت تعرفه لأنك تقول عن نفسك مخابرات وتعرف كل شيء، أتركني أعود إلى المنزل، لأنني لم أنم منذ المساء"، يزيح الستار عن تفاصيل ما دار معه.
إغلاق الحساب
صباح يوم 13 مايو/ أيار 1998، استيقظ "علقم" الأب، يتجرع مرارة قتل والده طعنًا على يد أحد المستوطنين، في أثناء توجهه إلى عمله في البناء، ليعود الحفيد "خيري" الذي حمل اسم جده، ليثأر له ولشهداء جنين، ويغلق الشاب الثائر حسابين مع الاحتلال، ويرد الصاع صاعين.
كلمات الفخر والاعتزاز ترافق صوت خاله سفيان قنبر في حديثه لصحيفة "فلسطين": "نحن نفتخر به، فما فعله واجب على أي فلسطيني، خيري بالنسبة لنا شهيد وبطل".
"معروف عنه منذ طفولته، أنه مؤدب وملتزم وعلى مستوى عالٍ من الأخلاق والدين، متعلم ولديه تخصص مهني (فني كهرباء)، لديه كل شيء من مركبة وسيارة وكان ينوي الزفاف، لكنه اختار أن يفرح فلسطين كلها" يقول خاله، ومن السماعة يأتيك أصوات المعزين.
لم تكن شجاعة خيري في تنفيذ العملية مفاجئة لخاله، فهذه الصفة امتاز بها الشاب في حياته، الذي لم يسجل على نفسه أنه "افتعل شجارًا واحدًا مع أحد طيلة حياته".
كأي فرد تسربت أخبار العملية إلى خاله منذ اللحظات الأولى، لكن السيارة كانت علامة أعطتهم شكوكًا أن يكون المنفذ هو "خيري"، أكدها عدم رده على الهاتف، ثم إعلان شرطة الاحتلال، واقتحام منزل العائلة بأكثر من 200 جندي إسرائيلي، طوقوا المنطقة واعتقلوا والده ونحو 120 فردًا، 40 منهم تعرضوا للتحقيق.
"قناص مناسب في مكان مناسب.. أفضل من ألف جندي في ساحة المعركة" منشور تجده على صفحة الشاب العشريني على موقع "فيسبوك" نفذه واقعًا، مدركًا أن يومًا ما سيصبح وصية تتناقلها الأجيال الفلسطينية، التي تأخذ وصايا الشهداء على محمل الجد، ويزرع بذورها في قلب أحدهم، فتنبت نارًا وثورة تتناقل من شخص إلى آخر، ومن جيل إلى جيل.
تزامنت عملية القدس مع ذكرى ميلاد الشهيد باسل الأعرج (27 يناير، كانون الثاني)، وكأن "خيري علقم" مرَّ على وصية "الباسل": "المقاومة جدوى مستمرة" وأهداه رصاصات وضعها في قلب دولة الاحتلال أوقدت شموع الانكسار فيهم، ووصية عدي التميمي "أن ثمرة العملية أن يحمل مئات الشباب البندقية من بعدي"، كما هي وصية إبراهيم النابلسي "لا تتركوا البارودة"، ليكتب وصيته بحبر الدم "من قال إننا نريد السلام؟ نريد حربًا لا نهاية لها".