يواصل جيش الاحتلال عملياته في الضفة الغربية، وترتفع وتيرة اعتداءاته على مخيم جنين، في ضوء البدء الفعلي لحكومة اليمين المتطرف لتنفيذ خطتها السياسية والعسكرية التي تعتمد على عدد من الاستراتيجيات في ظل التقديرات التي تؤكد أن الانفجار في الضفة ما زال هو الخيار المطروح أمام كل الفواعل المؤثرة في الساحة الميدانية والسياسية، إذ اعتمد الاحتلال ومنذ اليوم الأول عن إعلان حكومة نتنياهو ثلاث إستراتيجيات لمواصلة سيطرته الأمنية والعسكرية على الضفة، ومحاولةً منه لتحييد خلايا المقاومة ورفع حالة التوتر بما يتناسب مع طبيعة الأحداث وردود الفعل الميدانية والشعبية في إطار معركة مفتوحة تدور رحاها منذ أكثر من عامين، والتي كانت أحد عوامل انطلاقها هي التداعيات الناجمة عن معركة سيف القدس والتي أسست لبنية شعبية جماهيرية عريضة في مواصلة النضال والمقاومة بكل الأشكال والوسائل خلال العامين الماضيين والتي شكلت حالة من التحدي على كافة الأصعدة، سواء كان تحديًا للمنظومة الأمنية الصهيونية، أو تحديًا لأجهزة أمن السلطة التي باتت في حالة من الترهل – حسب وجهة نظر الاحتلال- الذي أكد أن التنسيق الأمني خلال السنوات العشر الأخيرة هو الأداة الرئيسة لكبح جماح المقاومة وتفكيك خلاياها في محافظات الضفة، ومن بين تلك الإستراتيجيات التي اعتمدها الاحتلال في إطار عملياته في محافظات الضفة على وجه التحديد، وقطاع غزة، ما يلي:
أولًا: إستراتيجية جز العشب
تعد إستراتيجية جز العشب من بين الإستراتيجيات العسكرية التي يرى الاحتلال أنها لعبت دورًا مؤثرًا وواضحًا في تقليص عدد من العمليات الفدائية النوعية التي كانت تستهدف قوات الجيش المنتشرة على الحواجز والحدود ومناطق التماس، وهو ما اعتبره نتنياهو قبل انتهاء ولايته بعد معركة سيف القدس 2021 أنها أحد الإنجازات التي ساهمت في نجاحها قوات أمن السلطة بعد أن رصدت تقارير صهيونية مدى أهمية التنسيق الأمني وتأثيره على عمليات الجيش وتحقيق أهدافه قياسًا لبعض العمليات التي كان ينفذها الاحتلال دون الحاجة إلى تعاون أمني من السلطة.
في ضوء ذلك تعرضت قيادة السلطة لضغط جماهيري ومؤسساتي وفصائلي لضرورة وقف التنسيق الأمني، كخطوة مهمة للتصدي لإستراتيجية الاحتلال التي تستند بالأساس على التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية، وقد أعلن المجلس المركزي في اجتماعه الأخير فبراير 2022 وقف التنسيق مع الاحتلال، واتخاذ عدد من القرارات الأخرى المتعلقة بالتحلل من العلاقة مع الحكومة الصهيونية، في حين أن تنفيذ تلك القرارات ما زالت معلقة، وهو ما يشي أن التقديرات السياسية للخبراء السياسيين لسلوك السلطة كان صحيحًا، والذي يؤكد أن السلطة لن تستطيع وقف أو تعطيل أو إلغاء التنسيق الأمني، كونه أحد العوامل التي تعزز بقاء السلطة في الضفة الغربية، فهل ما أعلنته حركة فتح خلال مؤتمرها أمس "أن التنسيق لم يعد قائمًا مع الاحتلال" يستند على برنامجٍ وطني، أو على رؤية وطنية شاملة، لحماية المشروع الفلسطيني، والعودة إلى خيار الديمقراطية والوحدة الوطنية والنضال الفلسطيني المشترك مع كافة الفصائل والقوى السياسية؟.
تقدير الموقف لاستراتيجية جز العشب/ يبدو أن الاحتلال وبالاعتماد على أجهزة أمن السلطة حقق نجاحًا نسبيًا مع منتصف عام 2021، وقد بدأ التراجع وفقدان الجيش بوصلته خلال عام 2022 والتي فقد خلالها الاحتلال جزءًا من سياسة الردع في الضفة، وتعرضت بنيته العسكرية لمشاغلة دائمة أمام العمليات الفدائية التي نجح بها المقاومون والتي أدت إلى مقتل (32) صهيونيًا خلال العام، وهي الإحصائية الأعلى في السنوات الأخيرة.
ثانيًا: إستراتيجية البحث عن الهدوء في قطاع غزة
اعتمد الاحتلال إستراتيجية الاحتواء وفرض الهدوء في قطاع غزة، وحاول أن يرفع من سقف تطلعاته المستقبلية في القطاع، في ضوء الحصار المفروض على غزة منذ ما يزيد عن (15) عامًا، حاول خلالها الاحتلال نسف القيم الوطنية للشعب الفلسطيني، وضرب العلاقة البنيوية بين قوى المقاومة والحاضنة الشعبية. اعتمد الاحتلال على عدة أدوات خلال تطبيق إستراتيجيته، من بين تلك الأدوات: التفاوض الدائم من خلال الوسطاء، والتخفيف من تفاقم الوضع الاقتصادي في غزة، والرد على عمليات إطلاق الصواريخ بصورة لا تجلب له فتح معركة طويلة الأمد على غرار المعارك الأخيرة التي لم يحقق خلالها الاحتلال أي هدف من أهدافه.
تقدير الموقف لإستراتيجية البحث عن الهدوء في غزة/ أكدت الأحداث الميدانية، والسلوك السياسي لفصائل المقاومة، وردود جيش الاحتلال، أن تلك الإستراتيجية لم تحقق للاحتلال الحد الأدنى من النجاح، في ضوء استمرار المقاومة في تهديد الاحتلال، وفرض قواعد الاشتباك الدائم بناءً على سيناريوهاتها التي أعدتها لمواجهة الاحتلال، والتي اكدت أن غزة ما زالت عقدة غير قابلة للتفكك.
ثالثًا: إستراتيجية عزل السلطة سياسيًا:
جاء قرار الحكومة الصهيونية بعزل السلطة سياسيًا بناءً على رؤية صهيونية مستقبلية لمواجهة القوى السياسية والعسكرية التي تتمدد في الضفة وتتسع رقعتها، وتفرغت لجعل السلطة كيانًا أمنيًا وظيفيًا قائم على مساندة الاحتلال في إطار بناء منظومته الأمنية في الضفة، وهو أحد بنود صفقة القرن التي تجاهلت دور السلطة السياسي في ترتيبات الصفقة، إذ رفض الاحتلال البدء في مفاوضات الحل النهائي، كما رفض تنفيذ القرارات الدولية التي تدعوا للانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 والتي تدعو لقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وهو سلوك اعتبرته السلطة منافيًا للأعراف والقوانين الدولية، وبدأت في ملاحقة الاحتلال كخطوة أولية في إطار البحث عن الخروج من عنق الزجاجة، فقد أكدت السلطة أن خياراتها تتعلق بوقف التنسيق الأمني ومواصلة تحركها السياسي عبر محكمة العدل الدولية للبحث عن مشروعية الاحتلال في أرض فلسطين، فهل تنجح السلطة في مواصلة هذا الخيار؟ أم أن هناك عوامل ستعيق هذا التحرك مستقبلاً، وتدعوها للالتزام بالتوصيات الدولية التي لم تساند أي سلوك فلسطيني ضد الاحتلال؟
تقدير الموقف لإستراتيجية العزل السياسي للسلطة/ يبدو أن عمليات الجيش في جنين وفي محافظات الضفة شكلت دافعًا قويًا لتغيير السلطة لإجراءاتها السياسية في تعاملها مع الاحتلال، وهو ما يمكن اعتباره "سلوكًا لحظيًا غير دائم"، باعتبار أن السلطة ستعود في المستقبل القريب لعودة التنسيق مع الاحتلال كونه الرابط الوحيد الذي يعزز من بقاء السلطة في الضفة الغربية، كما أن التحرك الدبلوماسي ربما لن يستمر في ضوء ما يمكن أن تتخذه حكومة نتنياهو من إجراءات مشددة ضد قيادة السلطة على غرار العقوبات المالية التي فرضها الاحتلال مؤخرًا.
في هذا السياق لا يوجد بصيص أمل لحلول سياسية مستقبلية في ظل نشأة حكومة يمينية أكثر تطرفًا، وفي ظل العقلية الصهيونية التي تعتمد أنماطًا جديدة في التعامل مع الأحداث الميدانية، وهو ما يؤكد أن السلوك الفلسطيني تجاه الاحتلال بحاجة إلى إعادة صياغة على كل المستويات لكسر ذراع الاحتلال وتقويض توجهاته ونسف مخططاته في الضفة وقطاع غزة.