فلسطين أون لاين

عمر خمور.. الاحتلال أضاف وجعًا ثالثًا على قلب أمه

...
تشييع جثمان الشهيد خمور
بيت لحم - غزة/ يحيى اليعقوبي:

بحروف بريئة وكلمات انبعث حبرها من قلبه، انصاعت اللغة للطفل عمر خمور (14 عامًا) وهو يستميلها للتعبير عن عمق حبه لفلسطين ولأمه وعائلته، في لحظةِ تأمل خطت أنامله وصيةً على ورقةٍ وأخفاها عن الجميع، لتنير كلماته طريقًا رسمه لغيره من أبناء بلده إن جاء دوره، وهو يرى الأطفال من حوله يعدمون على يد قوات الاحتلال بدم بارد، فتوقع أن يكون هدفهم التالي.

لساعات متأخرة من مساء الأحد الماضي، ظلَّ عمر يتسامر مع أصدقائه الصغار حول موقد النار، شاركتهم والدته في الاجتماع، التي زينت اللقاء الأخير بقطع من الكيك، واحتساء "الشاي"، ثم انفض الأصدقاء، وذهب طفلها إلى سريره.

كانت الساعة الخامسة والنصف فجر الاثنين، عندما خرج عمر من منزله لحظة اقتحام جنود الاحتلال منطقة سكنه في حي "الجراشية" على أطراف مخيم الدهيشة جنوبي بيت لحم، بالعادة يذهب الأطفال والشبان لأماكن قدوم قوات الاحتلال إما لرشقها بالحجارة وإما للمعاينة.

اقرأ أيضاً: صورة وصية مؤثّرة للشهيد الطفل "الخمور" .. ماذا قال لوالدته؟

كان الطفلُ يركض محاولًا الوصول إلى أقرب نقطة يشاهد من خلالها القوات المقتحمة، ولم يدرِ أنها تملأ حارته وأنه يسير تحت عيون قناصة ترصد تحركه، حتى أوقفت ركضه رصاصة قناص إسرائيلي استقرت في رأسه.

خبر من القلب

دوّى صدى الرصاصة في قلب أمه بعد دقائق من خروجه من المنزل، جعلها تهرع نحو غرفة شقيقه الأكبر محمد (25 عامًا)، يرتجف صوتها، تزفُ إليه خبرًا كان مصدره الوحيد قلبها: "أخوك استشهد، روح شوفه!"، ففتح عينيه اللتين أسدلتا ستار النعاس قبل عشرين دقيقة فقط، لم يستوعب الصدمة، فقبل غفوته ألقى نظرة "اطمئنان" على سرير شقيقه ورآه نائمًا.

يعتصر صوت أمه وهي تستحضر تفاصيل آخر لحظات "آخر العنقود"، تروي لصحيفة "فلسطين": "استيقظ يتحدث بالهاتف مع أصدقائه، فعرفت أنه سيخرج، طلبت منه عدم الخروج خوفًا عليه من بطش جنود الاحتلال الذين لا يفرقون بين طفل وشاب، لكنه أصر على الخروج".

"تمنعنيش" آخر كلمة قالها لأمه، ثم خرج وكان يركض مسرعًا، لم يلتفت لكلماتها وندائها له بالعودة: "ارجع، ارجع"، لم يغِب كثيرًا حتى سمعت صوت الرصاصة "حينها أدركت أنهم أعدموه، ثم بعد دقائق قليلة بدأ الجيران يأتون إلى البيت".

من عائلة صغيرة هو أصغرها خرج عمر، فلديه ثلاثة أشقاء (شابان وبنت)، شقيقه محمد اعتقل لدى الاحتلال عامين وجريح، وشقيقه إبراهيم جريح وأسير لدى الاحتلال منذ خمسة أشهر، اعتقل الاحتلال والده ثلاث سنوات.

على الرغم من كل الواقع المرير أحب الطفل الحياة، وأقبل عليها كان يهرب من أصوات الاقتحامات والرصاص لممارسة رياضته المفضلة (السباحة) يحاول البحث عن الأمن المفقود في الخارج في أعماق المياه، وتعلم "الدبكة" الشعبية، مرتبطًا بكل ما يقربه من فلسطين.

ولأنَّ شقيقه أسير والآخر جريح، مثل عمر "دينامو" البيت التي ارتكزت عليها أمه، بصوت تملؤه الحسرة تستذكر: "كان يساعدني في كل شيء، حتى بالأعمال المنزلية، كنت أعده حياتي كلها، هو حنون لم يرفض لي طلبًا، ويساعد الجيران ونساء الحي ويجلب لهنّ الأغراض، في آخر يومين قبل استشهاده أعطاه فاعل خير طرودًا لإيصالها لعدد من العائلات المحتاجة بالمخيم، إذ كان سعيدًا، كان صديقًا للأطفال وللكبار معًا".

سؤال ووصية

"يما بتحبيني!؟".. قبل أيام طرح عمر على والدته هذا السؤال بعدما قبّل رأسها كعادته، فردت عليه: "فش أم بتكره ابنها"، ثم طرح سؤالًا ثانيًا يستكشف فيه ردة فعلها: "إذا استشهدت، بدك تعيطي علي؟"، لم تختلف إجابتها كثيرًا: "فش أم بتبكيش على ابنها!"، ثم أغلقت فمه تطلب منه عدم تكرار الحديث، وذكرته بحال شقيقيه وقلبها المتعب عليهما، وهو لا يتحمل إضافة وجع ثالث.

في مقطع مرئي مدته 11 ثانية نشر بعد استشهاده، غطاه أصدقاؤه بسجادة صلاة كمحاكاة للاستشهاد أحدهم رفع طرف السجادة وأغلق عينيه، وداروا به داخل الغرفة يحملونه على أكتافهم، تحولت المحاكاة إلى واقعٍ، ارتخى رأسه على كوفية حمراء وأغلقت عيناه ونامت نومة طويلة، وزيّنت الورود نعشه وكفن بعلم فلسطين، شاركت أمه في حمل نعشه ومواراته تحت الثرى من بين آلاف المشيعين.

اقرأ أيضًا: جماهير غفيرة تُشيّع جثمان الشهيد الخمور في مخيم الدهيشة

قبل استشهاده، زار عمر قبر صديقه الشهيد الطفل آدم عياد (15 عامًا) استُشهد مطلع يناير/ كانون الثاني الجاري، تعلق أمه: "طلب من أصدقائه أن يدفنوه بجوار آدم، وأشار نحو قبر فارغ يجاوره: "هذا لي"، وطلب منهم أن يتركوا مساحة في حائط على جدار المخيم مليء بصور الشهداء وطلب أن يرسموه عليها وبجانبه صورة الشهيد عدي التميمي".

تأثَّر عمر بالشهيد التميمي حتى إنه قصّ شعره مثله لحظة تنفيذ ابن القدس عمليته الفدائية، وكذلك بالشهيد إبراهيم النابلسي فقد احتوت وصيته على رسالة النابلسي، فأوقدت حروفه شعلتها: "نفسي الناس تصحى على حالها"، وأضاف بكلمات تدلل على وعيه الكبير وارتباطه بقضيته: "احنا تحت احتلال صهيوني، وأتمنى من الأجيال القادمة أن تكون الحرية بين أياديهم".

في وصية بدأت بالدعاء: "اللهم الثبات والنصر والاستشهاد" وختمها بكلمات خصّ بها أمه: "إذا جيتك شهيد بإذن الله يا أمي زغرتي ولا تبكي، أصدقائي وأحبابي ما حدا ينساني، ولا تتركوا أمي"، كتب عمر عن حبه لفلسطين وأمه، وكان الفقد أكبر من أن توقف الوصية دموع عينَي والدته، فما زالت تجري وتنهمر حزنًا على رحيله.