فلسطين أون لاين

أعدمته قوات الاحتلال قبل أن يركن حقائب السفر

تقرير الشهيد "كميل".. حبيب "قباطية" وأيتامها

...
جنين-غزة/ يحيى اليعقوبي:

عندما يتردد اسمه ويُذكر بين ألسنة الحاضرين في بلدة "قباطية" جنوب جنين، تبدأ خبايا صدقاته التي زرع بذورها في الخفاء داخل كثيرين بالخروج إلى النور لتُحيي ذكراه، وتحديدًا مع الأيتام، فحبيب محمد علاونة كميل (25 عامًا) شاب في ربيع عمره الأول أصبح تاجر ملابس معروفًا، لكن ما ميّزه هو عمله الخيري، ومساعدته للناس.

ظُهر الخميس الماضي، تلقَّى السائق علاء كميل اتصالًا هاتفيًّا من ابن عمه "حبيب" يطلب منه القدوم "للجسر" لنقله إلى المنزل. لم يتأخر عنه كثيرًا، وطوت السيارة طريق العودة حتى وصلا إلى البلدة الساعة الثالثة عصرًا.

وضع حبيب حقائب السفر بعد ستة أيام أمضاها في تركيا لشحن طلبيات استيراد ملابس وأحذية لمحله، وأسند ظهره إلى المقعد ينال قسطًا من الراحة بعد رحلة سفر، وطريق عودة استغرق ساعات حتى وصل إلى المنزل.

في الخارج يفرش الهدوء أوتاده على بلدة قباطية، تخلو من مواجهات أو أحداث، غلب النعاس عيني الشاب المُرهَق قبل أن يكسر الصمت اقتحام مفاجئ لقوات خاصة إسرائيلية.

لحظات مروعة

في دقائق من الاقتحام عاش علاء كميل تفاصيل "مروعةً" ولحظات تحبس الأنفاس تحول البيت الواقع في الحارة الشرقية بالبلدة (طريق الجامعة العربية الأمريكية)، إلى ساحة معركة، إطلاق رصاص كثيف، وقوات كبيرة، واقتحام بالداخل والخارج، وأصوات صراخ النساء والأطفال من البيوت المحيطة.

يتحرك المشهد أمامه من جديد وهو يروي لصحيفة "فلسطين": "أطلقوا النار عشوائيًّا ودون سبب، أعدموا حبيب برصاصة اخترقت رأسه، واستُشهد على الفور، اعتقدت أنه سيحين دوري لكنهم انسحبوا بعدما اعتقلوا ابن عمي محمد في حين بقيت أعيش صدمة إعدام حبيب، وتنزف دماؤه على الأرض حتى نقلناه إلى المشفى".

"أطلقوا عليه النار بدم بارد، إنسان عائد من السفر لم يُمثّل خطرًا عليهم، اقتحموا البيت وأطلقوا النار بهمجية حتى قتلوه".. ما تزال الصدمة تسيطر على صوته: "قبل الوصول إلينا اقتحموا البيوت وكسروا أثاثها بعنجهية، حتى أنني وجدت سيارتي تمتلئ بعشرات الرصاصات عندما انسحبوا".

حبيب معروف بوسامته، عيناه خضراوان، وشعره ذهبي، في كل صوره يظهر أنيقًا لا تفارق البسمة ملامح وجهه، يرتدي أجمل الملابس وهو الذي يستوردها ويبيعها، وينال الأيتام وحفظة كتاب الله قدرًا من صدقاته من تلك الملابس الأنيقة.

يرثي ابن عمه: "حبيب شاب شهم، حبيب الناس في قباطية أكبر بلدة في جنين، كل الناس حزنت عليه، لم ينقصه شيء، ناجح في عمله، وجهز بيتًا أشبه بـ"فيلا"، وكان يستعد للزواج، وكان ملتزمًا في صلاته، أصبح تاجر جملة ومفرق، لديه محل رئيس (معرض) للملابس في البلد لبيع الملابس الشبابية، ومخزن لبيع الجملة، الابتسامة لا تفارقه".

قبل عام كان ينقص ابن عمه نحو 10 آلاف شيقل لشراء سيارة، كانت وجهته صوب حبيب، تسعفه الذاكرة ببقية التفاصيل: "أعطاني المبلغ، وقال لي لو احتجت ضعف المبلغ سأعطيك، وأرجعت الدين متفرقًا (أقساط) وليس على دفعة واحدة كما أعطاني إياه، وكان يصبر على التجار والناس الذين يعطيهم دينًا أو يسامحهم".

في مقطع فيديو، يظهر حبيب وهو يشتري طعامًا لقطة جائعة، ويطعمها في "مشهد دلّل على رقة قلبه، وإنسانيته الكبيرة" والكلام لابن عمه.

حبيب الأيتام

من صدقاته مع جمعية "قباطية" الخيرية، كفالة الأيتام بالمال والملابس، وتبرعه بتمر وماء لمشروع "على الطريق" في شهر رمضان، وتقديم إفطار كامل للأيتام ومراكز تحفيظ القرآن في البلدة، بجانب كفالته ليتيم والتزامه تحمل نفقاته شهريًّا.

وقبل أسبوع من استشهاده وعد الجمعية بمساهمة مالية لمبنى الروضة ومركز التحفيظ الجديد، وكان يُخرج زكاة ماله كل عام للجمعية.

يصفه عضو الهيئة الإدارية للجمعية حسان محمد نزال بأنه "محب للخير"، يزيح الستار عن بعض خبايا صدقاته، قائلًا لصحيفة "فلسطين": "معروف عنه في قباطية أنه متصدق، حتى أنّ إمام المسجد الذي خطب الجمعة في أثناء مواراته الثرى أكد أنه تعلم الصدقة من حبيب".

أكثر شيءٍ مؤثر في علاقة حبيب بالجمعية، "عندما كان يُرافق الأيتام إلى محله، أو أن يستقبل حفظة القرآن الكريم، ويخرجون من عنده وهم يحملون كسوة العيد، قمة الفرح والسعادة، تدمع لها الأعين" يردف نزال.

ومن المشاهد التي لا تفارق ذاكرة نزال، عندما تحضر أمهات الأيتام وتكون الجمعية قد فردت الملابس التي تبرع بها حبيب على طاولات كبيرة، ويستفيد منها عدد قد تجاوز المئة، فيأخذن ما يناسب أطفالهن، فكان "يُدخل الفرحة على قلوب اليتامى في العيد، ترى وجوههم قد رسمها الفرح".

في آخر أيامه، كانت عائلته تستعد لإعلان مراسم خطبته، لتدق طبول الفرح فيها، الجميع استعد لرد "الجميل" لهذا الشاب، فرحةٌ منتظرة أطلق الاحتلال رصاصه عليها، وحرم "قباطية" من جوادها، لتبكيه الأيتام في الأعياد.