يُخطئ بعض العرب والفلسطينيين في تضخيم "الصراع المشتعل" لأول وهلة في (إسرائيل)، لسوء في التحليل، أو لإسقاط رغبة ذاتية على الواقع الموضوعي، ينتج عنهما الأخذ بتصريحات تدخُل في سياق التراشق الكلامي بين أطراف المعسكرين "المتنازعين"، مثل اتهام غانتس لنتنياهو بأنه يجرّ (إسرائيل) إلى حرب أهلية، ودعوة أعضاء كنيست من "عوتسما يهوديت" لاعتقال غانتس ولبيد بالمقابل، بتهمة الدعوة لعصيان مدني على خلفية دعواتهما إلى الخروج للتظاهر و"زلزلة الدولة"، بلسان زعيم "كاحول لافان" يائير لبيد.
سبق وقلنا إن الجولات الانتخابية الخمس الأخيرة التي جرت في (إسرائيل) خلال السنوات الأربع الماضية، تمحورت حول شخص بنيامين نتنياهو، وتحميل ملفاته الجنائية بُعدا سياسيا، حيث انقسمت الساحة الإسرائيلية بين من هو مؤيد لنتنياهو، وبين من هو معارض له في اصطفاف عجيب غريب، أسفر عن حكومة هي خليط من "أقصى اليمين" مثل بينيت وشاكيد وليبرمان وساعر، و"أقصى اليسار" مثل "العمل الحمائمي" و"ميرتس"، وصولا إلى منصور عباس.
وقد ساعدت هذه الجولات الانتخابية المتلاحقة، وما أحدثته من ديناميكيات داخلية على تحييد القضية الفلسطينية بشكل نهائي عن الأجندة السياسية الإسرائيلية، وموضعة هذه الأجندة حول قضايا الحوكمة والديمقراطية والدين والدولة، وأعادت انقسام المجتمع الإسرائيلي على قاعدة هذه القضايا المحملة بأبعاد ديمغرافية إثنية وطائفية.
والانتخابات الأخيرة لم تحمل جديدا في ما يخص تحالف حزب الليكود مع الشرقيين والحريديين، فقد وُجدت هذه الفئات السياسية والاجتماعية في السلة نفسها، بعد أن همشت من قِبل "دولة بن غوريون" التي طابقت اجتماعيا بين الأشكناز العلمانيين، وبين الحزب المؤسس "مباي" وحليفه "مبام"، وبالصيغة الأحدث؛ العمل - ميرتس سياسيا، وقد صعد بيغن إلى الحكم عام 1977 على سلّم "الأخوة اليهودية" في مواجهة الخطاب الفوقي الأشكنازي الذي واصل قيادته لحزب العمل.
وفي غضون العقود الأربعة الماضية، سيطر الليكود وحلفاؤه التاريخيون، من شرقيين وحريديين ومستوطنين على مقاليد الحكم في (إسرائيل)، خلال فترة حكومة رابين- بيرس 92- 96 وحكومة باراك 1999-2001؛ وهي سيطرة تعززت مع التعاظم الديمغرافي لهذه الشرائح، والذي خلق انقساما ثابتا وأغلبية عددية لهذه الفئات بين اليهود. ومن الجدير ذكره أن الاستثناءات الثلاث، بما فيها حكومة بينيت- لبيد، اعتمدت بشكل أو بآخر على أصوات العرب، حيث اعتمدت حكومة رابين- بيرس على الجسم المانع، وفاز باراك في عهد قانون الانتخابات المباشرة، بعد أن حصل على 90% من أصوات العرب.
وقد فضّل بيرس، خليفة رابين المقتول برصاص اليمين، رأب الصدع بين الإسرائيليين على عملية التسوية مع الفلسطينيين، وأنهى حياته السياسية وزيرا صغيرا في حكومة شارون، وكذلك فضّل باراك إفشال كامب ديفيد، والسماح لشارون باقتحام الأقصى كزعيم للمعارضة، وإشعال الانتفاضة الثانية، وأنهى حياته السياسية وزيرا كبيرا في حكومة نتنياهو بثمن شق حزب العمل وتفتيته.
وغانتس الذي يحذر اليوم من أن نتنياهو يقود إلى "حرب أهلية"، هو أيضا "كسر عصاته من أول غزواته" و"خان" مصوتيه، وشقّ تحالف "كاحول لافان"، لأجل أن يكون وزير أمن في حكومة برئاسة نتنياهو، لم يخرج منها إلا بعد أن تأكد له أن الأخير لن يلتزم باتفاقية التناوب الموقّعة بينهما، وهو من اقترح مؤخرا على نتنياهو إجراء عملية "الإصلاح القضائي"، التي يصفها المعسكر المنتمي إليه بانقلاب على الديمقراطية، بالتفاهم، مبديا استعداده للتفاوض حول ماهية هذا الإصلاح، ناهيك عن أنه قتل فلسطينيين عندما كان وزير أمن في حكومة بينيت - لبيد، أكثر مما قتل في حكومة نتنياهو.
أما حالة بن غفير - سموتريتش، فهي الصرعة الأخيرة التي تفتّق عنها العقل السياسي للمشروع الاستعماري العنصري في نسخته الجديدة، التي تسعى إلى تعميم نمط المرحلة الاستيطانية الثانية (الضفة الغربية) على التاريخ والجغرافيا الصهيونيين، بأثر رجعي. وإذا كان نتنياهو يعتقد أنه بن غوريون ثان، فرَض "السيادة الإسرائيلية" على كل فلسطين التاريخية، فإن الرجلين يعتقدان أنهما جابوتنسكي وبيغن، اللذين كانا أكثر تطرفا ومغامرة وعداء للعرب والفلسطينيين.