على الرغم من أنّ دخول الفاشيين، مثل إيتمار بن غفير وسموتريتش وآفي ماعوز، حكومة نتنياهو الإسرائيلية الجديدة، أكّد طابعها الحكومة الأكثر تطرّفاً، والأكثر عنصرية، والأكثر فاشيةً في تاريخ المنطقة، إلّا أنّ هذا التغيير الخطير لم يخرج عن سياق تطور الحركة الصهيونية ومساره في فلسطين، وتجاه الشعب الفلسطيني، فهي ليست الحكومة العنصرية الأولى أو الوحيدة، بل يمكن القول إنّ جميع حكومات (إسرائيل) منذ نشوئها كانت عنصرية، ولم تكن مصادفةً أن تصنّف الجمعية العامة للأمم المتحدة، في قرار لها عام 1975، "الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، إلى أن ألغي هذا القرار بضغط هائل من الولايات المتحدة، ونتيجة تراخي بعض الدول العربية، في عام 1991.
ومثلت النكبة التي ارتُكبت ضد الشعب الفلسطيني عام 1948، وتهجير 70% من سكّان فلسطين، وتدمير 530 قرية وبلدة، وإخضاع من بقوا على أرض وطنهم لحكم عسكريٍّ عنصريٍّ بغيض، نموذجاً لأسوأ أشكال الممارسات العنصرية في التاريخ الحديث، التي تجسّدت في التطهير العرقي ضد غالبية الشعب الفلسطيني.
ما هو الجديد في الأمر إذاً؟ الجديد أنّ الحركة الصهيونية راعية إنشاء (إسرائيل)، وحكوماتها، التي تستّرت على مدار عقود بالادّعاء أنّ (إسرائيل) محبّة "للسلام"، وهي ضحية عدوان جيرانها الذين يرفضون التفاوض معها أو الاعتراف بها، تشعر أنّ ميزان القوى مختلٌّ لمصلحتها، بما يسمح لها بأن تكشف، أو تصمت عن انكشاف جوهرها حركة عنصرية موغلة في التطرّف.
والجديد، أيضاً، أنّ العنصرية العميقة التي تغلغلت في بنيان المجتمع الإسرائيلي تزاوجت مع تصاعد الأصولية الدينية اليهودية لتجنّب حركة كاخ الإرهابية التي أسّسها كهانا، وصنّفت حركة إرهابية في (إسرائيل) والولايات المتحدة، وكان بن غفير وسموتريتش من أتباعها، مثل القاتل باروخ غولدشتاين، ثم شكلا أحزاباً فاشية جديدة، تؤمن بما يسمّونها "العظمة اليهودية"، أي تفوّق العرق اليهودي (Jewish supremacy). ويذكّرنا ذلك بما كان النازيون يطرحونه عن "تفوّق العرق الآري".
وليس صحيحاً ادّعاء أنّ نتنياهو ضعيف أمام هذه الحركات الفاشية، لأنّه في الواقع الراعي الأول لما تحمله من أفكار تطرّف عنصرية، وهو يمثل امتداداً للتطرّف الذي مثله جابوتنسكي ومساعده الذي كان والد نتنياهو. ونتنياهو الذي عبّر بصراحة، في كتابه "مكان تحت الشمس" الذي أصدره عام 1994، عن رفضه فكرة تسوية مع الفلسطينيين، ومعارضته قيام دولة لهم، وحتى اتفاق أوسلو بكلّ مساوئه وظلمه للفلسطينيين، يستغلّ هذه الأحزاب الفاشية ليوهم الآخرين بأنه أكثر "اعتدالاً"، في حين أنه أكثر من ساهم في بناء منظومة الأبرتهايد والتمييز العنصري الإسرائيلية، وهو من دفع في اتجاه إقرار قانون القومية اليهودية العنصري في الكنيست.
لا يحتاج الأمر للبحث والتدقيق لفهم مقاصد الحكومة الفاشية الجديدة، فهي تعلن صراحةً أنّ هدفها ضم الضفة الغربية بالكامل، وتكريس تهويد القدس، وتعميق السيطرة اليهودية على كامل أرض فلسطين التاريخية عبر التوسّع الاستيطاني، وتكرّر كلّ يوم أنّ كلّ فلسطين (يسمّونها أرض إسرائيل) هي حكر لليهود فقط، وحقّ تقرير المصير فيها محصور باليهود فقط.
وتفتح هذه الحكومة الأبواب على مصراعيها لمجانين التطرف الديني اليهودي وحاخاماته، وفي مقدمتهم بن غفير، للهجوم على المسجد الأقصى والمقدّسات المسيحية والإسلامية، ومحاولة خلق وجود يهودي، وهيكل صلوات تلمودية داخل المسجد. وكان لافتاً أنّ اقتحام بن غفير المسجد الأقصى، بالتنسيق مع نتنياهو، بعد أن صار وزيراً للأمن، ترافق مع هجوم دنيء على مقابر مسيحية في القدس وتحطيم شواهد القبور فيها.
ولا يقتصر الانحراف الفاشي على العلاقة بالفلسطينيين، بل يمتدّ إلى هجومٍ على كلّ ما هو "ليبرالي" في (إسرائيل) نفسها، مع محاولةٍ للسيطرة على القضاء، وإخماد كلّ صوتٍ معارض للتطرّف الإجرامي، وتجلى ذلك في التصريحات التي دعت إلى طرد النائب الإسرائيلي اليهودي عوفر كسيف من الكنيست، لأنّه يعارض الفاشية، ويؤيد حقوق الشعب الفلسطيني. وذلك ما عبّر عنه الكاتب الإسرائيلي، ألف بن، في مقال له في صحيفة فورين أفيرز الأميركية، إذ كتب: "تضع (إسرائيل) اليهودية الأرثوذكسية قبل حقوق الإنسان، وتعامل المواطنين العرب (الفلسطينيين) كأعداء، وتهدم الضوابط والتوازنات التي يفرضها القضاء القوي والمستقل".
ومن هذه الزاوية، تؤثّر التحولات نحو الفاشية مباشرة على تماسك المجتمع الإسرائيلي نفسه، وتنشئ حالة تفتّت داخلي، وتمثل، في الوقت نفسه، فرصة غير مسبوقةٍ للفلسطينيين ومناصريهم للعمل من أجل فرض العزلة والمقاطعة على الحكومة الإسرائيلية، وكشف طبيعة منظومة الأبرتهايد العنصرية وتعريتها.
بدّد صعود الفاشية الإسرائيلية، ويبدّد، أوهاماً كثيرة، أولها وهم أنّ (إسرائيل) هي الضحية في الصراع الدائر، ووهم إمكانية الوصول إلى حلّ وسط مع الحركة الصهيونية، وأوهام المراهنة على مفاوضات للتسوية، و"حلّ الدولتين" الذي تدّمره جرافات الاستيطان. ومع تبدّد الأوهام، لا يبقى أمام الشعب الفلسطيني إلّا تبنّي ما أدركه جيل الشباب فطرياً، وما يشعر به الفلسطينيون جميعاً، أنّ الحركة الصهيونية لا تفهم إلّا لغة القوة، وأن انعطافها العميق نحو الفاشية لن يُردَع إلّا بمقاومتها على الأرض، وتبنّي استراتيجية عزلها ومقاطعتها وفرض العقوبات عليها، وإدراك أنّ الهدف الفلسطيني لم يعد فقط إنهاء الاحتلال، بل إسقاط كلّ منظومة الاضطهاد والأبرتهايد العنصرية في كلّ فلسطين التاريخية.