أوفى رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، بوعد قطعه، في أثناء غداء العمل السنوي للأصدقاء المحافظين لـ(إسرائيل)، قال فيه إن المملكة المتحدة ستصوت ضد محاولة فلسطينية للحصول على رأي استشاري، من محكمة العدل الدولية، بشأن الاحتلال الإسرائيلي في الأمم المتحدة. لكن القرار حصل على تأييد 87 صوتًا واعتراض 26 وامتناع 53 عن التصويت، خلال جلسة عُقدت قبل أيام، فأمسى معتمدًا من الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي سبق لها أن صوّتت، بأغلبية ساحقة، في الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، على قرار آخر، يؤيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
وبحسب موقع المنظمة الدولية، يسأل الطلب الاستشاري، الذي يزعج وما زال (تل أبيب)، المحكمة: "ما الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك (إسرائيل) المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديموغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟ وكيف تؤثر سياسات (إسرائيل) وممارساتها في الوضع القانوني للاحتلال؟ وما الآثار القانونية المترتبة عن هذا الوضع بالنسبة إلى جميع الدول والأمم المتحدة؟".
انتقلت الحساسية من نص الطلب، ومن محتوياته، إلى الولايات المتحدة، ومعها ألمانيا أيضًا برفقة بريطانيا، فعارضته، وأدّت إلى امتناع فرنسا عن التصويت، فمنح الجميع من خلال موقفهم المشين أخلاقيًا، الدعم لبنيامين نتنياهو، حين كان يتحضر لتولي منصبه رئيسا للحكومة الأشد تطرّفًا في تاريخ (إسرائيل)، ولهذا وجدناه يصف ما حدث في نيويورك بأنه "حقير".
وسوناك، ومعه قادة الدول الكبرى، ما برحوا يعلنون أنهم يؤيدون "حل الدولتين"، وحين تحين لحظة ترجمة معطيات هذا التوجّه، في قرارات أممية، يقلبون وجوههم، ويدّعون أن مثل هذه القرارات تضرّ عملية التسوية. ولكن أحدًا من هؤلاء لم يبدِ موقفًا يشرح أو يومئ بخطوات تدعم العملية الميتة فعليًا منذ سنوات طوال، لا بل إن ما يجري فعليًا تأييد معلن وترحيب بالسياسات التي لا يخفيها نتنياهو، ومن تناوب معه على شغل منصبه، فالأمر الذي لا يتغير في هذا المسار أن دولة دينية ذات توجه عنصري متطرّف، سيبلغ عمرها 75 عامًا، تقوم على اضطهاد شعب احتلت أراضيه، بقيت طوال سنوات وجودها من دون محاسبة على ما تفعله، وحين يريد مسؤول أن ينافق للوبيات المؤيدة لها، التي قد تسهم في دعمه في بلده، لا يتورَّع عن الذهاب إلى أبعد ما يمكن القيام به لدعمها.
حال ريشي سوناك، القادم إلى منصبه من بوابة أزمة الاقتصادي البريطاني، والفشل العام بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، لا يبدو مختلفًا عن كثيرين ظنوا أن خطوات كهذه ستوفر لهم غطاءً من نوع ما، يجعلهم يتحصلون على بعض القوة، كي يمضوا في إصلاح أحوالهم الصعبة. ولكن كيف يستوي الموقف من الطلب الفلسطيني للحصول على فتوى المحكمة الدولية حول واقع حال الأراضي المحتلة، وهي عملية إجرائية لن تقدّم أو تؤخّر شيئًا على الأرض، مع الموقف الذي اتخذه قادة الدول الغربية، تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية؟!
قد يبدو من السذاجة عقد المقارنات بين الدعم الذي يحصل عليه الأوكرانيون، و"اللادعم" للفلسطينيين، الذي يتحوّل إلى موقف معارض في المحافل الدولية، مع ادّعاء منافق بتأييد "حل الدولتين" الذي تقضم سياسات الاستيطان معطياته، ويُفجَّر مع الخطوات الفاجرة، في تغيير الواقع الديموغرافي في شرقي القدس.
منبع السذاجة هنا من خلال الواقع المكرّس عبر الزمن، واحتساب التفاصيل المرتبطة به، إذ كرّست الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، منذ زمن طويل، سلطتها على القوى الفاعلة عالميًا، من خلال ادّعاء أنها تمضي في عملية التسوية، على الرغم من أن ثلاثين سنة مرّت منذ بدء مسار أوسلو، لم تنتج سوى ديمومة الامتهان للحقوق الفلسطينية، تحت أنظار العالم كله، وقد يزيد في طنبور الهراء أنغامًا، أن دولًا عربية مضت في التطبيع مع (إسرائيل)، تؤيد الطلب الفلسطيني في الأمم المتحدة، لكن قادتها على أرض الواقع ينافقون، فيدعون نتنياهو إلى زيارتها، بعد تبريكاتهم له بعودته إلى منصبه.
ما يصلح فعليًا لتوصيف المشهد أننا نبتعد، قدر الإمكان، عن استخدام تعبير "التناقض" بين الادّعاءات الإعلامية والسياسات على الأرض، لا لشيءٍ سوى أن الرجرجة والهلامية لا تستدعيان استخدام العبارات الصلبة، بل إنها تقودنا إلى ما يشبه حفلة تنكّرية داعرة، يمكن للمدعوين أن يأتوا إليها، من دون خجل بوجوههم المعروفة، ليتبادلوا طرق أنخاب النفاق والرياء.