القرار الذي اتخذته حكومة الاحتلال باقتطاع جزء من أموال الضرائب الفلسطينية "المقاصة" ما هو إلا استمرار لسياسة العربدة والبلطجة التي يمارسها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، فقد سبق لها اقتطاع أموال المقاصة، فهي تفوق 100 مليون شيكل (نحو 32 مليون دولار) -بحسب وزارة المالية الفلسطينية 2022- والآن قررت قطع 139 مليون شيكل ( نحو 40 مليون دولار)، وهي ما تعده مجموع ما يُدفع من رواتب للأسرى والشهداء والجرحى، عقاباً على التوجه للجمعية العامة للأمم المتحدة ولمحكمة العدل الدولية في لاهاي، بإبداء الرأي بشأن التبعات القانونية للاحتلال والاستيطان والتهويد الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية.
وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوة الدولية فإنها جاءت متأخرة من السلطة الفلسطينية، وكان يفترض أن تبادر بها منذ سنوات، لمقاضاة الاحتلال وإلزامه حده، وما شجعه على التمادي في سياسة البلطجة والجرائم سوى سلوك السلطة المتهاون والخطاب الناعم، ونتيجة لذلك فإن مجموع ما استحوذ الاحتلال عليه من الأراضي والممتلكات الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو حتى هذه اللحظة يعادل أضعافًا مضاعفة لما كان عليه الحال في السابق، ولعل السبب في ذلك أن الاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال قد رهنت الوضع الفلسطيني برمته بيده، ومكّنته من الإقدام على إجراءات يسعى من خلالها إلى فرض وقائع لمصلحته لا يمكن التراجع عنها بسهولة، إلا إذا دفع الثمن غالياً، لأن الحقوق لا تستجدى.
وبالعودة إلى صلب الموضوع المتعلق بأموال الضرائب والعوائد التي تجبيها سلطات الاحتلال من الشعب الفلسطيني كضرائب تصل قيمتها 2.5 مليار دولار سنوياً، ما يعادل مليوني دولار شهرياً، على أن تقوم بتحويلها إلى السلطة الفلسطينية، أي أن هذه الأموال خاصة بالفلسطينيين التي أجازتها اتفاقية باريس الاقتصادية في عام 1994، وبما أنها الآن تقتطع جزءا منها فإن هذا يعني أن الاحتلال يتنصل من الاتفاقيات التي وقعها مع السلطة الفلسطينية، ويضرب بها عرض الحائط.
إن إقدام الاحتلال على جريمة التعدي على أموال الشهداء والأسرى والجرحى ما هو إلا سياسة فاشية يحاول من خلالها تجريم نضال الشعب الفلسطيني ووصمه بالإرهاب، وعلى العكس من ذلك يحاول قلب الحقيقة بتحويل الجلاد إلى ضحية، بمكافأة جنوده المجرمين، فهو يدفع على الدوام مخصصات لعائلات أسراه الذين احتجزتهم الفصائل الفلسطينية سواء في لبنان أو في الأراضي المحتلة، وهم الذين كانوا يشاركون في حروب عدوانية واحتلال غير مشروع ويرتكبون المجازر تلو المجازر من مذبحة دير ياسين، إلى مجازر مخيمات صبرة وشاتيلا ونهر البارد، وصولا بمجازر غزة وجنين، ومع عدم وجود وجه مقارنة بين الأمرين سابقي الذكر، فإني أطرح الأسئلة الآتية: هل يمكننا أن نطالب نتنياهو بوقف دفع رواتب لعائلات جنوده الذين قتلوا وأسروا في عدوانه المتكرر على قطاع غزة، أو خلال الاعتداءات المتكررة لقوات الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة والأراضي العربية؟ من المسؤول عن قتل الشهداء؟ ومن اعتقل الأسرى؟ ومن تسبب في زيادة أعداد الجرحى؟ أليس الاحتلال الإسرائيلي ومعه “الكنيست” المشرع الرئيس للاحتلال، ويعمل على إزاحة كل العوائق والحواجز من أمامه، والحقيقة أنه يعينه على ارتكاب الجرائم المخالفة للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية، فسبق أن شرع قانون قرصنة مستحقات الأسرى والشهداء والجرحى الفلسطينيين، واليوم يدرس إقرار مشروع عنصري جديد بإعدام الأسرى الفلسطينيين؟
إن الحقوق لا تستجدى، فقد أضاع الطرف الفلسطيني أكثر من ثلاثين عاماً في وهم المفاوضات مع الاحتلال، ولا يزال يراهن على آمال مفقودة، بسبب تعنت الاحتلال، وعدم التزامه بأوسلو. السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا يتم اتخاذ إجراءات مماثلة من قبل الطرف الفلسطيني؟ فإذا كان الاحتلال قد لفظ اتفاقية أوسلو، فلماذا السلطة في رام الله متمسكة بها؟ حقاً الأمر يستوجب من قيادة منظمة التحرير والسلطة الإسراع في طي الاتفاقية وملحقاتها طي النسيان، والتحرر من القيود التي ترتبت عليها، على رأسها وقف العمل بما يسمى التعاون والتنسيق الأمني، وتوحيد الشعب الفلسطيني بإنهاء الانقسام وإحلال المصالحة لمواجهة تحديات الاحتلال.