خطاب رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وتصريحاته، في جلسة التصويت على الثقة بحكومته الجديدة الخميس الماضي (29/12/2022) يجب أن يؤخذا بجدّية، ليس من الفلسطينيين فحسب، بل من كل الدول العربية والعالم، حين أعلن أن كل فلسطين ملك للدولة الصهيونية، وأن الأولوية القصوى لحكومته توسيع المستوطنات، وأنه لم يعد هناك مكان لمفاوضات أو أي تسوية، وأن معاهدات السلام مع الحكومات العربية لا تعني شيئا غير فرض شروط (إسرائيل).
بالنسبة لبنيامين نتنياهو وحكومته المتطرّفة دينيا وقوميا، التطبيع هو نتاج "انتصار الدولة الصهيونية" واستسلام الدول العربية، لا أكثر ولا أقلّ. وعليه، من حقّ (إسرائيل) أن تأخذ ما تريد، فالانتصار يعطيها الحقّ بالمشاركة في كل الموارد الطبيعية في المنطقة، بل حق امتلاكها، مستفيدة من استمرار الخنوع العربي، فالقصة ليست اتفاقيات، بل ما يرافقها من خطواتٍ أميركية، لتأسيس تحالف عسكري عربي بقيادة أميركية إسرائيلية، تضع المنطقة تحت هيمنة (إسرائيل) الأمنية.
فهم نتنياهو، السياسي المخضرم، المعادلة جيدا، ولم يعد يأبه بالدبلوماسية، علما أنه من أدهى المسؤولين الإسرائيليين وأكثرهم فهما للعلاقات العامة ويتقن الدعاية والتضليل، ففي شبابه كان من أقوى المدافعين عن الغزو الإسرائيلي للبنان وأنجحهم، مستغلا لهجته الأميركية، وتصوير العدوان ليس "دفاعا عن النفس" فحسب، وإنما عن الحضارة الغربية. سيتابع توظيف بلاغته في ترويج الكذب وتسويق مقولة "إن (إسرائيل) محاطة بالأعداء، وإن إيران خطر وجودي على (إسرائيل)"، فهذه سمات نتنياهو، لكن الكثير تغيّر، وبوجود حكومة بهذا القدر من التطرّف، تبدو اللحظة سانحة الآن لبدء عهد ترهيب وإرهاب ووحشية غير مسبوقة ضد الشعب الفلسطيني، غير مكترثةٍ بالأنظمة العربية أو الإدارة الأميركية التي لم تحرك ساكنا لإيقاف الزحف الاستيطاني وتصاعد وتيرة قتل الأطفال الفلسطينيين.
عودة نتنياهو السادسة إلى سدة الحكم، بعد أن اعتقدت حكوماتٌ غربيةٌ وعربيةٌ أنه انتهى، جعلته أكثر صلافة وغرورا وشعورا بالقوة؛ فمن جهةٍ حلفاؤه في الحكومة هم عتاة المتطرّفين الذين يجاهرون بهدفهم طرد الفلسطينيين، ومن أتباع أشد التيارات الصهيونية إجراما. ونتنياهو يفهم ذلك تماما، ولذلك وضع بن غفير وزيرا للشرطة، أي المسؤول الأمني الأعلى، وهو يعي أن لدى هذا الشخص كتيبة من المستوطنين، وتعيينه، عمليا، يعني جعله مسؤولا ليس عن المستوطنات فحسب، وإنما عن الضفة الغربية بكاملها.
كان طبيعيا أن يُنتج اليمين يمينا أكثر تطرّفا، وهذه مرحلة لا تحتمل التدرّج في تحقيق المشروع الصهيوني، وإنهاء القضية الفلسطينية إلى الأبد، فالمشروع بدأ في عهد ترامب الذي تبنّى السياسات الإسرائيلية بدون مواربة، فأعلن القدس "عاصمة" مزعومة ل(إسرائيل)، وعبّر، بكل صراحة، أنه لا يحقّ للمهزومين (العرب والفلسطينيون) وضع شروط استسلامهم، بل يستولي المنتصر على كل ما يريد.
كان تأثير ترامب على مسار السياسة الأميركية، وعلى تقوية نتنياهو والتيارات المتطرّفة الصهيونية، أبعد مما كان ظاهرا، فهو تحدّث باسمهم، ليس من منطلق صهيوني بالضرورة، بل من منطلق الرأسمالي العنصري الاستعماري الذي ليس لديه تعاطفٌ مع مظلوم، فترامب لا يدع قيما مثل العدالة والحرية تقف في طريق أحكامه وقراراته، لكن ما ثبت، ولم يكن مستغربا، أن فجاجة ترامب لم تبتعد في جوهرها عن استراتيجية المؤسسة الأميركية. لذا لم يغير الرئيس جو بايدن أو يعكس أيا من قرارات سلفه.
وكانت المفاجأة الكبرى لمعاهد الأبحاث الأميركية المؤيدة ل(إسرائيل)، وأركان السياسة الأميركية داخل الكونغرس وخارجه، أن خطوات ترامب لم تفجّر غضبا رسميا أو شعبيا عربيا، وجاء توقيع اتفاقيات التطبيع، ليؤكّد لهذه الجهات أن هناك نقطة تحوّل لا رجعة عنها، وأن (إسرائيل) تستطيع أن تحقق ما تريد، وأن المخاوف من انفجار عربي أثبتت خطأها، وما يحدُث بعد ذلك، من مظاهرات أو احتجاجات، وفقا لهذا الرأي، ليس ذا أهمية.
عامل أخرى استقوى به نتنياهو والإسرائيليون، وهو الغوص في الحرب الأوكرانية، فخلافا لتمنيات عربٍ كثيرين، أن روسيا ستخرج منتصرة وتكسر شوكة الهيمنة الأميركية، ثبت أن الحرب منهكة لموسكو، وأن علاقة الأخيرة ب(تل أبيب) لم تتأثر، فروسيا أهم مصادر النفط الذي تستورده دولة الاحتلال، إضافة إلى أنها المخزون البشري من اليهود الروس بين مهاجرين حاليين ومستقبليين إلى (إسرائيل)، ناهيك بصداقة نتنياهو نفسه بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وإن تحتاج مناقشة هذه المسألة لمقال منفصل لتعقيدها وأهمية تفاصيلها.
توجد ظاهرة أو موقف يجب الوقوف عنده، وهو عدم إظهار أميركا أو حتى مؤيدي (إسرائيل) اهتماما بتأثير تصاعد المقاومة الشعبية وشعبية "عرين الأسود" و"مقاومة جنين" وشجاعتهما، وقبل ذلك هبّة أيار 1921، وهبّة الكرامة داخل الخط الأخضر، باعتبارها عمليات نهوض فلسطيني مقاوم، فكل من أميركا و(إسرائيل) تعاملتا مع هذه التطورات بعقليةٍ أمنيةٍ بحتة، أو تسويق المشاريع الاقتصادية، للمرّة الألف، لتهدئة نفوس الفلسطينيين، إذ من الواضح أنه ليس هناك استعداد لدى (تل أبيب) أو واشنطن بإعلان أي تغيير، ولو طفيفا، تجاه الحقوق الفلسطينية، فيما عدا التصريحات الفارغة عن إقامة دولة فلسطينية، بيعا للوهم وأملا بتخدير العقول.
واضحٌ أن الإدارة الأميركية ما تزال تراهن على أن استمرار التطبيع والمشاريع التطبيعية الاقتصادية، وربط الدول العربية ومواردها بالدولة الصهيونية، ستغيّر المزاج العام، أو على الأقل تجرّب إغراء الشعوب بالرضوخ. صحيح أنها انتبهت إلى التأييد الشعبي العربي الهادر للقضية الفلسطينية في مونديال قطر، بل تابعته وأجرت تحليلات له، فأمرٌ كهذا لا يمر على صناع القرار في واشنطن، لكن الاستراتيجية الأميركية تعتمد على التغييرات التدريجية التي ستُحدِثها مشاريع التطبيع على البنية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي جعل الرضوخ والخنوع أمرا واقعا لا مفر منه.
لا تتوفر معلومات، لكن كما يحدث بعد كل تطوّر مهم، مثل الهبّات الفلسطينية وتصاعد المقاومة، وحتى ما شهدناه في المونديال من رفض الشعب العربي للتطبيع، قد نشهد تدفق أموال أميركية وأوروبية، ولا يُستبعد أن تكون عربية أيضا، لإنشاء مشاريع شبابية أو نسائية مستغِلة انتشار البطالة والفقر في العالم العربي، ومعتمِدةً على قمع الأنظمة وتجريم العمل السياسي، لمنع هذه المشاعر من التحوّل إلى فعل جماهيري مؤثر ضد التطبيع. والرهانات الأميركية الإسرائيلية مفهومة، لكن هذا لا يعني نجاحها، فما لا تفهمه الإدارة الأميركية والحكومة الصهيونية، ولن تفهماه، أن عهد الرعب الصهيوني القادم سيكون أكبر مُحرّض للشارع العربي ضد (إسرائيل)، فجانب كبير مما شوهد في مونديال قطر كان ردة فعل على الجرائم الصهيونية واتفاقيات التطبيع المُذِلة، ومصدر إلهامها وحماسها واندفاعها هو المقاومة الفلسطينية.
سيدخل الشعب الفلسطيني في مرحلة جديدة من التعرّض لحملات وحشية، وإطلاق العنان لعتاة المستوطنين المجرمين.. وعليه؛ كل نظام عربي يصمت ويستمر في العلاقة مع (إسرائيل) إنما يشارك في جريمة كبرى، لن يغفرها الفلسطينيون أو الشعوب العربية.