انشغل المجتمع الفلسطيني خلال المدة الماضية كثيرًا بقضية تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ولقد انتابني شعور عميق بأن كل من يتابع الشأن الإسرائيلي لديه رغبة جامحة بألا يستطيع نتنياهو تشكيل الحكومة التي عدّوها أكثر الحكومات تطرفًا في تاريخ (إسرائيل) القصير، بل لقد أسرف البعض في نقل حديث الساسة الصهاينة المناوئين لنتنياهو بشأن فساد أعضاء الحكومة الجديدة والقضايا التي رُصدت ضدهم في المحاكم الإسرائيلية، وكذلك نقل المحللون خوف بعض الضباط الصهاينة على الكيان من غلو الحكومة الجديدة، وتحدثوا عن رسالة أرسلها هؤلاء الضباط الكبار للمحكمة الإسرائيلية العليا يطلبون فيها تدارك الأمر بصفتها الجدار الأخير للحفاظ على (الدولة)، ثم تحدث البعض بشأن تحفظ الإدارة الأمريكية على بعض الشخصيات التي ستتشكل منها الحكومة.
ربما يعذر المرء المحللين والخبراء على هذا الانجراف الشديد نحو الانسياق اللاشعوري في طبيعة التفكير الصهيوني، وذلك بسبب التأثير الشديد للسياسة الصهيونية في الأحداث التي تجري على الأرض الفلسطينية، ولكن يبدو أننا ننسى في غمار هذه الزوبعة أن الشعوب المحتلة المقاومة لم يكن بوارد حسبانها قط أن تراهن على سياسات الحكومات القائمة بالاحتلال، وإنما كان تركيزها دائمًا على المقاومة التي تجبر الاحتلال على الرحيل أيًّا كانت الحكومة التي تحكم، ولا أظن أن أي حكومة صهيونية سواء تلك التي تدّعي أنها يمينية أو يسارية قد يراود خيالها فكرة منح الشعب الفلسطيني حقه كنوع من ترف الفكر السياسي الذي قد يخطر ببال زعمائها دون أن تكون المقاومة العنيدة والصلبة هي التي تدفعهم إلى ذلك مضطرين، وهذا ما تخبرنا به تجارب كل الشعوب التي ناضلت ضد الاحتلال.
حكومة نتنياهو الجديدة بكل ما يرفعه أعضاؤها من شعارات عنصرية وخطط استيطانية تتوجه بوضوح نحو الصدام الحتمي مع المقاومة التي خاضت حربًا قاسية مع الحكومة الصهيونية السابقة من أجل الدفاع عن القدس والتصدي لممارسة الغطرسة والقمع ضد أبناء شعبنا في الضفة الغربية ومدينة القدس على وجه الخصوص.
الصدام الحتمي بين المقاومة والمحتل هو العلاقة الطبيعية بين المتضادات، وهو الأمر الذي سيبقى قائمًا ما بقي الاحتلال، صحيح أن زيادة القمع ورفع وتيرة الاعتداء سيؤديان إلى تصاعد المقاومة، ولكن لا يعني ذلك أن يُعد الصدام بحد ذاته أمرًا طارئًا بين المقاومة والاحتلال، وعليه فإنني أجزم بأن حكومة نتنياهو الجديدة تدرك هذه الحقيقة جيدًا، وخير من يدرك هذه المعادلة هو رئيسها الذي سعى جاهدًا طوال مدة حكمه السابقة -وهي الأطول في تاريخ رؤساء وزراء العدو- للحفاظ على التوازن القائم بين المقاومة والاحتلال حتى لو كان هشًّا، وفي سبيل ذلك مثلًا أمر جهاز أمنه بنقل الأموال القطرية مباشرة من مطار اللد إلى معبر إيرز لتسليمه للحكومة في غزة رغم ما صاحب هذه الحركة من شكل إذلال لقوات الاحتلال التي تسلم المال مرغمة وهي تعلم جيدًا أن جزءًا منه يذهب إلى جهات غير تلك التي اتُّفق عليها.
لا أقول إن نتنياهو سيمارس سياسته السابقة بالحفاظ على التوازن، ولكنها الوسيلة المثلى لبقائه في الحكم أطول مدة ممكنة، ومرد ذلك أن الولايات المتحدة والإقليم والدول المطبعة يرغبون في تهدئة المنطقة لتمرير مخططهم للشرق الأوسط الذي يتعامل مع (إسرائيل) على أنها عضو طبيعي في المنطقة.
وعلى الرغم من عدم الرضى المعلن من الإدارة الأمريكية عن توجهات بعض أعضاء حكومة نتنياهو العنصرية المتطرفة فإن موقف الولايات المتحدة لن يختلف عن مواقفها السابقة عند أي صدام يحدث بين المقاومة وحكومة نتنياهو المتطرفة، وسترفع الولايات المتحدة شعار "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها"، إلا أنها ستسعى جاهدة من خلال الوسطاء لاحتواء النزاع في أضيق صورة ممكنة كما كانت تفعل في كل مرة.
وحتى حدوث هذا الصدام سيسعى جاهدًا ابن غفير وسموتريتش إلى فرض بعض الوقائع التي يمكن تحقيقها على الأرض، وستذهب بقية شعاراتهم أدراج الرياح كما ذهبت شعارات ليبرمان قبل ذلك حينما وعد أنصاره بالتخلص من السيد إسماعيل هنية خلال 48 ساعة إذا ما تسلم وزارة الدفاع الصهيونية، ثم ظهر جليًا فشله الذي حاول تحميله لنتنياهو معللًا ذلك بأن نتنياهو منعه من تحقيق وعده.
السياسة الصهيونية منذ قيام دولة الكيان لا تتغير، فهي قائمة على إنكار وجود الشعب الفلسطيني، ناهيك بالاعتراف بحقوقه، وفي سبيل الصعود السياسي كان الساسة الصهاينة يرفعون شعارات العنصرية ضد العرب، ولقد قالوا سابقًا إن دولة (إسرائيل) من النيل إلى الفرات، وقال ديان: حدودنا حيث تصل إلى جنودنا، ولكن الذي يحدث على الأرض أن الكيان في حالة تراجع رغم نغمة العنصرية النشاز التي يعزفها أغرار السياسة الصهيونية، قد يجمعون الأصوات على أنغام العنصرية والتطرف، ولكنهم سيصطدمون بحائط صد عظيم أفشل عتاة الفكر الصهيوني الذين أسسوا كيانهم، هو الشعب الفلسطيني العظيم.