13 ديسمبر 1992م تحركت وحدة من كتائب الشهيد عز الدين القسام في ذكرى انطلاقة حركة حماس لتنفيذ عملية أسر للجندي الصهيوني نسيم توليدانو، وقد نجحت هذه الوحدة في أسر الجندي الصهيوني، ومقابل ذلك طالبت بالإفراج عن مؤسسها الشهيد القائد أحمد ياسين رحمه الله، وأمهلت الوحدة الخاطفة سلطات الاحتلال عشر ساعات لتنفيذ المطالب، ولم يكن رئيس وزراء الاحتلال آنذاك إسحاق رابين في وارد الخضوع لإملاءات حركة حماس، فحاول المماطلة والتسويف، وفي سبيل ذلك أجرى على وجه السرعة مراسل التلفزيون الإسرائيلي لقاءً خاصًّا مع الشيخ أحمد ياسين في معتقله، الذي بدوره طالب الخاطفين بالحفاظ على حياة الجندي الأسير حتى تلبية مطالبهم، وأذكر أننا كنا نشاهد الأحداث عبر التلفزيون "الإسرائيلي" الذي كان وسيلةَ الإعلام المتاحة لتلقي أخبار العملية، وأذكر أن المذيع طلب من المراسل بث الفيديو في أثناء الطريق لعرضه في نشرة الأخبار حتى تصل رسالة الشيخ أحمد ياسين إلى الخاطفين قبل مضي الوقت.
انتهى الموعد دون تحقيق مطالب الوحدة الخاطفة، ولم يكذب الخاطفون خبرًا فقتلوا الجندي، وأظن أن هذا القرار جاء على خلفية فهم الوحدة الخاطفة للعقلية التي يدير بها الاحتلال العملية، وهي عقلية التسويف والمماطلة وكسب الوقت حتى يُحددوا مكان الجندي الأسير، إضافة إلى قلة الإمكانات في ذلك الموقف، التي لا تساعد البتة على الاحتفاظ بالجندي مدة طويلة حتى تنفيذ المطالب.
كان رد فعل رابين على جرأة الخاطفين غير مسبوق، فاتخذ قراره في المجلس الوزاري المصغر المنعقد في 17 ديسمبر 1992م بإبعاد نحو 415 من قادة حركة حماس إلى لبنان، وقد تمت العملية على وجه السرعة وقبل أن ينتبه أحد من المجتمع الدولي لها، فجُمع من صدر قرار الإبعاد بحقهم سواء أكانوا معتقلين لدى الاحتلال أم اعتُقلوا من بيوتهم ليلة الإبعاد، ووُضعوا في باصات تحت حراسة الجيش الصهيوني، وتوجهوا بهم مباشرة نحو جنوب لبنان.
لم يكن يدرك المعتقلون الذين وضعوا في باصات الإبعاد تلك أنهم في طريقهم للإبعاد إلا بعد أن توقفت بهم الحافلات في الشريط الحدودي المحتل من لبنان آنذاك، وهناك أُنزِلوا وأُغلِقت الحدود دونهم، كان يمكن لهؤلاء المبعدين أن يسيروا على خطى من أبعد قبلهم بالتسليم للأمر الواقع، ولكن رغم هول الصدمة والمفاجأة غير المتوقعة، اتخذ المبعدون قرارهم برفض قرار الاحتلال والتَّمترس على حدود الوطن، وقد عبر عن موقفهم هذا الناطق باسم المبعدين د. عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله.
كانت المرة الأولى التي يتحدى فيها الطرف الأضعف وهم المبعدون، قرارَ الاحتلال، وينجح هؤلاء المبعدون في فرض قراراتهم، وتكسر قوة صمودهم عنجهية وغطرسة الاحتلال، ويعود المبعدون إلى الديار ليغلق ملف الإبعاد بعد هذه العملية إلى الأبد.
هذه الملحمة الوطنية الكبرى التي خاضتها حركة حماس في ذكرى انطلاقتها قبل ثلاثين عامًا، تخبرنا بأن حركة حماس لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم إلا بعد مسيرة طويلة لم تكن فيها ملحمة الإبعاد إلا إحدى حلقاتها.
اليوم بعد 35 عامًا من انطلاق حركة حماس، وبعد أن تجاوزت مرحلة الاجتثاث التي ظن البعض أنهم قادرون عليها، وبعد أن تحدت حركة حماس الاحتلال المرة تلو المرة، ربما لن تكون حرب سيف القدس آخرها، ومع أن الحركة ما زالت تحت الحصار منذ 15 عامًا، ما زالت إرادتها تتحدى إرادة الاحتلال وتأبى على نفسها قبول شروط الاحتلال كما رفضت قبل ثلاثين عامًا قرار الإبعاد، وكما نجحت في كسر إرادة العدو آنذاك ستبقى على عهدها وستكسر إرادة العدو بفرض الحصار.
حماس وعلى الرغم من تبوئها مكانة عربية وإقليمية مرموقة لم تتغير ولم تتبدل.
حماس اليوم ليست مجرد حركة وطنية فلسطينية إسلامية التوجه، ولكنها أمل يتعلق به أحرار الأمة العربية والإسلامية الذين يرون فيها روح العروبة والإسلام النابض بعد أن ماتت هذه الروح في أجساد كثيرة فشلت في تمثيل آمال وطموحات الأمة.
حماس تحتفل بذكرى انطلاقتها الخامسة والثلاثين، وهي تشق مسارها نحو هدفها الأسمى نحو القدس نحو فلسطين، قد يكون لها كبوة هنا أو هناك كما لكل فارس كبوة وسط الميدان، لكن سرعان ما تتحول الكبوة إلى كرة تصفع كل من راهن على السقوط.