نستشرف اليوم الذكرى الـ 35 لانطلاقة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في استحضارٍ حيّ لجلال الماضي، ومجد الحاضر وآمال المستقبل، وسط ظروف دقيقة وتحديات متزايدة، تواجه شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية.
حماس اليوم ليست هي حماس الأمس، فهي في دورة تطور وتجدد ديناميكية مبنية على نضج مطّرد وقدرة متواصلة على فهم الأحداث والتعامل مع المتغيرات، وهو ما أهّلها كي تشكل القوة الأهم على الساحة الفلسطينية ودرع القدس الحامي، والرقم الأكثر صعوبة، وغير القابل للطمس أو التجاوز والاحتواء، في معادلة الصراع الوجودي مع الاحتلال الصهيوني.
نستذكر اليوم التضحيات الجليلة التي قدمتها حركة حماس من دماء قادتها وكوادرها وعناصرها منذ انطلاقتها الرائدة عام 1987م وحتى اليوم، وعلى رأسهم الشيخ الإمام الشهيد أحمد ياسين، وموكب الشهداء العظام الذين لا يتسع المقام لحصر أسمائهم، والذين عطَّروا سيرة ومسيرة الحركة وجهادها البطولي في مواجهة الاحتلال ومشاريعه العنصرية على أرضنا المباركة، فضلًا عن الآلاف المؤلفة من الأسرى الذين اكتووا بنيران القهر والعذاب داخل سجون الاحتلال، والجرحى الأبطال، والمتضررين الذين هُدّمت بيوتهم وممتلكاتهم خلال الحروب وجولات التصعيد والعدوان مع الاحتلال وحكوماته المتطرفة في جميع مناطق القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.
وعلى مدار تاريخها الحافل أثبتت حماس استقلاليتها الكاملة، بمواقفها وسياساتها وقراراتها، وكرَّست نفسها بوصفها كيانًا سياسيًا وطنيًا يدافع بشراسة عن حقوق ومصالح أبناء شعبنا، وندًّا سياسيًا لا يُستهان به في مركزية السياسة الإقليمية، وتأثيراتها الدولية وسط بيئة إقليمية ودولية معادية، مُتسلحة بدعم وإسناد حاضنتها الشعبية الفلسطينية، وبحب وولاء شعوبنا العربية والإسلامية وكل أحرار العالم. وقد أحاطت حماس مواقفها وسياساتها وأدبياتها وميثاقها وسلوكها العام بسياجٍ وثيق من الصلابة الاستراتيجية، التي تجلت في استمرار التمسك بالحقوق والثوابت الوطنية، ودعم واحتضان الحاضنة الشعبية الفلسطينية، والتزام قيم ومبادئ الوحدة الوطنية والشراكة السياسية، وبناء مجتمعٍ فلسطينيّ مقاوم أنجز الكثير في إطار التصدي لمخططات وعدوان الاحتلال خصوصًا في القدس والمسجد الأقصى المبارك، في الوقت الذي تميزت فيه بمرونة حركتها السياسية والانفتاح على مكونات البيئة الإقليمية والدولية على مدار الأعوام الأخيرة.
حماس تنشر سياستها على مختلف الأصعدة
تنشر حماس اليوم أشرعتها على مختلف الأصعدة والمستويات، وتحقق إنجازات نوعية أصابت الاحتلال في العمق والصميم، داخليًّا وخارجيًّا.
على المستوى الجهادي المقاوم:
فإن حماس هي رأس المقاومة ومشروع التحرير الذي يتقدم باطراد، وشراكة كاملة وتنسيق رفيع المستوى مع بقية قوى المقاومة وتشكيلاتها العسكرية، تحقق إنجازات يومية في القدس والضفة وغزة، وما معركة سيف القدس التي دشّنت مرحلة جديدة في وعي الأمة عنا ببعيدة، وهو ما أذهل الاحتلال وقادته السياسيين والعسكريين والأمنيين، الذين عجزوا عن تطويع الحركة وثنيها عن درب ذات الشوكة بالرغم من الحروب المتواصلة وجولات العدوان والاغتيالات والاعتقالات وهدم البيوت وفرض الحصار على القطاع والعمل على تجويع أهله الصامدين، وما زالت مسيرة الإعداد العسكري الكبير تشهد بحقيقة فكر ومخططات الحركة لإنجاز مشروع التحرير خلال المرحلة المقبلة في مراكمة القوة العسكرية، وقد تمت هذه المسيرة في بناء الجيش العقدي المسلم وصناعة المتفجرات والطائرات والصواريخ.
على مستوى الحكم والإدارة:
فإن الكيان الحاكم الذي أسسته الحركة: الحكومة الفلسطينية والمجلس التشريعي بانتخابات 2006م، أسبغ الشرعية على المقاومة وحمى ظهرها، وأرسى عقيدةً أمنية جديدة بديلة عن عقيدة التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال، ونشر الأمن والأمان في ربوع القطاع، وقدم الخدمات لأبناء شعبنا وما زال يخفف آلامهم ومعاناتهم الناجمة عن قسوة الحصار.
على المستوى الوطني:
قدمت حماس نموذجًا رائدًا في الشراكة والتعاون المثمر مع القوى الوطنية والإسلامية والانفتاح على المجتمع المحلي، ومنظمات المجتمع المدني وجميع الشرائح الشعبية، وإشراكها في هموم وتحديات الحكم وإبداء الرأي والمشورة وصنع القرار، والتعامل مع الجميع على قدم المساواة في إطار الاحتكام للقانون، دون أي تمييز على أساس شخصي أو فصائلي.
وما زالت الحركة تمد يدها لإنجاح مسيرة المصالحة الفلسطينية الداخلية، وتبدي استعدادها الكامل لإنهاء الانقسام، وإرساء إستراتيجية وطنية موحدة تفضي إلى تكريس رؤية سياسية سليمة، تتحلل من كارثة أوسلو وبرنامج التعاون الأمني مع الاحتلال، وتدشين برنامج كفاحي مشترك لكنس وطرد الاحتلال، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ومنظمة التحرير على أسس مهنية ووطنية جديدة.
على المستوى السياسي والدبلوماسي:
شكلت حماس الوجه السياسي المشرق الذي يعمل ليلَ نهار، على تحشيد الدعم الخارجي لشعبنا وقضيتنا عبر أدوات سياسية ودبلوماسية رصينة، تمكنت من اجتياز حواجز المقاطعة الدولية وفتح خطوط ومسارات مهمة مع قوى دولية مهمة ومؤثرة في الساحة الدولية.
وقد أجادت حماس الانتقال الهادئ والمتوازن ضمن مساحات التكتيك السياسي الواسع خارجيًا، ودشنت علاقات مهمة مع العديد من الدول، وعلى رأسها روسيا، واستطاعت مواجهة الرواية والسردية الصهيونية لطبيعة الصراع مع الاحتلال، وهو ما أثمر في العديد من القرارات المهمة التي صدرت عن المنظمات الأممية طوال السنوات الماضية، وفي مقدمتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، بشأن حقوق وثوابت شعبنا، وتبدي بجلاء في زيادة مستوى تعاطف الكثير، من الدول والأمم والشعوب مع القضية الفلسطينية وتصاعد مستويات البغض والكراهية للاحتلال الصهيوني في أوساط الرأي العام العالمي.
فلسطين في مونديال قطر 2022م
ولعل الثمرة الأكثر وضوحًا في مضمار الجهد الدبلوماسي الخارجي الذي بذلته حماس في مواجهة سياسات الاحتلال واتفاقيات التطبيع التي فتحت بوابات بعض العواصم العربية أمام اختراقاته السياسية لبعض النظم العربية الحاكمة، تكمن في حالة التعاطف والدعم والتأييد الهائل لمعظم شعوب العالم مع شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية في مونديال كأس العالم بقطر، فقد تكاتفت الجماهير العربية والمسلمة على بكرة أبيها بإسناد كبير من أحرار العالم للتعبير عن عمق ارتباطها وتفاعلها مع القضية الفلسطينية، وهو ما تجسد في شوارع المدن القطرية وداخل ملاعب المونديال، خصوصًا بفوز المغرب، التي ارتفع فيها علم فلسطين عاليًا خفاقًا، وعلت الهتافات المدوية التي تنضح حبًا ودعمًا لفلسطين وشعبها البطل في قلب مدرجات البطولة العالمية.
إنّ المشاهد الرائعة التي حفل بها مونديال كأس العالم بقطر في إطار الانتصار للقدس وغزة وفلسطين، يشكل أعظم برهانٍ على فشل جميع جهود التطبيع في اختراق وعي وثوابت الأمة وشعوبها الحرة، ويؤكد مجددًا أن شعوب الأمة وكل أحرار العالم ينبذون الاحتلال، ويعدونه غدة سرطانية لا مكان ولا مستقبل لها في المنطقة، وأن محاولات بعض الأنظمة لكيّ وعي الشعوب، وإقحام الكيان الصهيوني بصفته كيانًا طبيعيًّا في منطقتنا العربية والإسلامية قد باءت بالخيبة التامة والخسران المبين.
وختامًا.. فإنّ ذكرى الانطلاقة لا تخص حركة حماس وحدها، بل تخص جميع أبناء شعبنا وأبناء الأمة العربية والإسلامية وجميع أحرار العالم، فحماس اليوم تتولى مع أشقائها في فصائل العمل الوطني والإسلامي، تمثيل شعبنا الفلسطيني وآماله وحقوقه وتطلعاته الوطنية، وتشق مسارها المبارك نحو المستقبل الواعد بآمال متعاظمة لإنجاز مشروع التحرير والعودة بإذن الله.
التحية كل التحية لشعبنا الفلسطيني الصامد الصابر المرابط في الداخل والشتات، ولكل طفل وامرأة وشيخ وشاب فلسطيني يحمل همّ الوطن والقضية ويواجه الاحتلال بصموده الأسطوري وتمسكه بحقوقنا وثوابتنا الوطنية غير القابلة للتجزئة أو المساومة مهما كانت التضحيات.
التحية كل التحية لروح الشهداء العظام الذين رووا بدمائهم، تراب الوطن المقدس، ورفعوا اسم فلسطين وشعبها عاليًا في مختلف ميادين البطولة والعطاء، وللجرحى الميامين الذين دفعوا ضريبة العزة والكرامة كي يحيا شعبهم، وللأسرى الأبطال في سجون الاحتلال الذين مرغوا كرامة الاحتلال في وحل الهزيمة وقضوا زهرات أعمارهم وراء القضبان.
وبعد خمسة وثلاثين عامًا من العطاء والتضحية، تقف حماس ومعها أبناء شعبنا وأمتنا على مسافة أقرب من النصر والتحرير بإذن الله، وستأتي بطوفان هادر نحو القدس
" وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".