فلسطين أون لاين

تقرير الريماوي فقد "ذراعه اليمنى" والاحتلال يجيب عن سؤال "ضياء" برصاصة

...
الشهيد ضياء الريماوي - أرشيف
رام الله - غزة/ يحيى اليعقوبي:

كانت أصوات المشيعين تحجب الصوت عن والد ضياء الريماوي (16 عامًا)، على الرغم من محاولته الإنصات لصوت شقيقه القادم من سماعة الهاتف. الساعة الرابعة عصر الخميس الماضي بدا المتصلُ قلقًا، تكاد حروفه ترتجف: "ابنك ضياء تصاوب، بتقدر تيجي بسرعة؟"، لم يستكملْ الريماوي الأب مراسم تشييع الشهيد مجاهد حامد من بلدة سلواد، وعاد إلى بيته في بلدة "ريما" قضاء رام الله.

طوال الطريق وفي أثناء العودة لم تتوقفْ الاتصالات الواردة لهاتفه تطالبه بسرعة العودة، ما أثار شكوكه أن ما حدث لنجله أكبر من كونه إصابة، ليعيد الاتصال بشقيقه، ويقف أمام حقيقة استشهاد نجله البِكر "ضياء"، وفرحة عمره، وسنده في عمله التجاري.

مراسم وداع

في صباح اليوم ذاته، أقام ضياء مراسم وداعٍ لنفسه سبقت التشييع الأخير، أخبر الجميع أنّه سيرتقي شهيدًا، لم يستطيعوا تمييز طريقة كلامه إن كان مازحًا أو فعلًا ينوي ويخطط لذلك، فعندما عاد من مدرسته (ذكور بشير البرغوثي الثانوية) مرّ على جدته، وتناول طعام الغداء الأخير معها، وطلب نقوداً منها لتعبئة وقود لسيارته، وقال لها بسعادة غمرت قلبه: "يا ستي بدي أروح شهيد، أنا بدي أروح شهيد"، قاطعته جدته، وطالبته بالرأفة بحالها: "يا ستي لا تحسرنا".

اقرأ أيضاً: حماس تنعى الفتى الشهيد ضياء الريماوي

غادر ضياء منزله بسلام وهدوء، أخبر الجميع أنه سيقضي شهيدًا، بنبرةِ الواثق بتحقيق أمنيته التي لطالما كانت الشيء الوحيد الذي يجري على لسانه، وتنبع من قلبه، فعندما أراد الخروج من المنزل، سألته أمه عن مكان خروجه، فأعاد عليها ما قاله لجدته: "بدي أروح أستشهد"، اعتقدت أنه يمزح، حتى أصدقاؤه الذين لفوه بالعلم قبلها بيوم زفوه في مشهد تمثيلي عندما أغمض عينيه، انتهى المشهد بفتحهما.

لم تدركْ الأم ولا الأصدقاء أنّهم في اليوم التالي سيقفون بالفعل أمام جثمانه، وضعوا فوق كفنه إكليل وردٍ زين ملامحه الهادئة، هذه المرة بقيت عيناه مغلقتين.

تعالت والدته على جراح قلبها، فاستقبلته بالزغاريد، وشاركت في حمل جثمانه من البيت حتى المقبرة، يردد المشيعون من حولها: "يا أم الشهيد نيالك.. يا ريت أمي بدالك"، في حين لم تتوقف عن الزغاريد طوال الطريق تقدم ابنها "شهيدًا للوطن". 

عُرف عن ضياء أنه كان يحب المدرسة، ولكن ما إن يسمع بدخول قوات الاحتلال كان يتركها ويذهب للتصدي لها بالحجارة، يحب أهله كثيرًا، غير أن هذا الحب لم يقف بينه وبين الخروج في كل مرة يقتحم فيها الاحتلال البلدة.

جريمة إعدام

يروي والده تفاصيل الجريمة لصحيفة "فلسطين"، ناقلًا عن شهود عيان، بأن ضياء وخمسة من أصدقائه خرجوا للتنزه الخميس الماضي، وكانت وجهتهم أرضاً قريبة من شارع يمر به المستوطنون، وبالقرب منه توجد نقطة عسكرية لجيش الاحتلال، في حين خلت المنطقة من مواجهات بين الشباب والاحتلال، موضحًا أن نجله وأصدقاءه تعرضوا لهجوم شنه نحو 10-15 جنديًا إسرائيليًا استمروا بإطلاق الرصاص مدة خمس دقائق، اخترقت رصاصةٌ ظهر ضياء وفجرت قلبه فاسُتشهد على الفور، في حين اعتقل الجنود أحد أصدقائه، وأصابوا ثلاثةً آخرين.

لم يجتمع ضياء بوالده إلا مرتين في يومه الأخير، يستحضر الأب المكلوم بوجع الفقد التفاصيل: "جاءني في الصباح وأخذ مصروفه المدرسي، وذهب وكان سعيدًا، حتى أنّ أساتذته أخبروني أنهم لم يروه بهذه السعادة من قبل، وقبل ساعتين من استشهاده اتصلتُ به وأخبرته أن يذهب ليعيد شقيقه الأصغر من العمل للبيت، وقال إنه سيرجع بعد نصف ساعة".

اقرأ أيضاً: تشيع الشهيد ضياء الريماوي في بيت ريما

بعد انتهاء الحدث جاء أحد أصدقائه، وسلم هاتف ضياء لوالده، ونقل له رسالته الأخيرة وكلمات قالها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يفتح والده الرسالة بدموع عينيه: "سلمولي على أبويا، خلوه يسامحني ويرضى علي".

تخرج كلمات الأب غاضبة: "هذا احتلال سفاح، يقتل الناس منذ عقود، فضياء منذ صغره، كبر على اعتقال ثلاثة من أعمامه أمضوا عدةَ سنوات، يرى يومياً جريحًا وشهيدًا، دائمًا كان يسألني: "ليش هيك بصير؟"، حتى أنّه شارك بتشييع جنازة الشهيدين الشقيقين من العائلة نفسها جواد وظافر الريماوي، ثم جاء وطرح السؤال نفسه، وكنت أُجيبه أن هذا احتلال ويريد قتلنا، ولم أتخيل أن يجيب عن سؤاله برصاصه!".

لدى ضياء أربعة أشقاء أصغر منه (بنتان وولدان)، كان "الذراعَ اليمنى" لوالده، اعتمد عليه في إتمام المعاملات المالية في البنوك، وفي الذهاب للقرى والبلدات من شمال الضفة لجنوبها لتحصيل الأموال، حفظ أسماء كل قرية وبلدة وحارة، وكان ثمرة والده، ليرحل أخيرًا بـ"غمضة عين".

"ابني أغلى شيء عندي بالدنيا، راح شهيدًا، ايش بدها تنفعني السلطة والقيادات، ولا شيء، خلص يحلوا السلطة والكل يناضل"، كلمات فارقت حنجرة الريماوي، مدركًا أن نجله لن يكون الشهيد الأخير.