فلسطين أون لاين

باقٍ شهر من 480 شهرًا لكريم يونس

كيف تمكّن الأسير كريم يونس من صعود هذه الجبال الشاهقة؟ كيف تمكّن من وعورتها وصخورها الصلبة القاسية؟ مساحة زمنية موحشة ينوء عن حملها آلاف الرجال، حملها كريم وحده، كم مرّة دخل معركة الإضراب المفتوح عن الطعام، وكم مرّة دوهمت غرفته في منتصف الليل بدعوى التفتيش الهستيري المجنون؟ وكم تفنّنت العيادة في تقديم العلاج غير المناسب ومرمرته قبل الوصول إلى حبّة الدواء الصحيحة؟ كم خلعت له الخلّاعة (طبيبة الأسنان) من أضراسه؟ كم بقي منها في فمه؟ وكم بقي في ذمّة هذا الذي يسمونه طبيبًا؟ كم زيارة وصل فيها أهله إلى بوابة السجن ثم أعادوهم أدراجهم دون أن تكحّل عيناه برؤيتهم؟ كم من حبيب وصل إليه خبر وفاته وكمد على حزنه دون أن يمكّن سجانه من نظرة شامتة؟ وكانت آخر الوفيات وفاة أمّه التي كان مناه أن يحظى بشيء من الوقت يقضيه بقربها، يشتمّ رائحتها الزكيّة ويعطّر روحه بشذاها الطيب، الآن سيغادر السجن بعد ثلاثين يومًا لتكون أوّل محطة له زيارة قبر أمّه، وسيقولون له: هذا قبر أبيك، وهذا قبر خالك، وعمّك، وجارك، ووووو. يا لها من ترويحة جاءت بعد أن باعد السجن بينه وبين أحبابه.

بعد شهر من الآن سيختم الأربعين سنة، سيحمل ذكرياته الجميلة واللئيمة، سيحمل على كاهله حمولة أربعين سنة من القهر والآلم، سيفيق صباحه الأوّل بعيدا عن نهيقهم وقولتهم المشئومة: عدد عدد، لن يأتيه عدو يحصي عليه أنفاسه في الصباح والظهيرة وعند المساء، بعد شهر من الآن سيختار طعامه وشرابه وحركة قدميه ومنامه ولباسه وحديثه وسيفتح عينيه ليرى الأفق جميلا بهيا واسعا كما هو، من غير أن يقطّعه حديدهم وشؤمهم وحقدهم، سيرى الحياة من غيرهم وهم يشاركونه الزمان والمكان في أضيق حالاته، سيفرح ويبتهج وسيشعر في الوقت ذاته بغصّة عندما يمرّ في خاطره من تركهم خلفه، إنهم هناك ينتظرون أن تأتيهم فرصة الحياة من جديد، أن يبعثوا من جديد خارج هذه السجون.

كيف سيقضي كريم هذا الشهر الفاصل بينه وبين الحياة، بين مدفن الأحياء والحياة فوق الأرض، بين ظلمات ثلاث ونور لا يُشبع منه؟ سيكون شهرا ثقيلا ولكنه سيمضي كما مضت الأربعمائة وثمانين شهرا، سيتنسّم الحرية وسينعم بما حرم منه، سيولد من جديد وسيفكّر مليا فيما هو آتٍ دون أن يخرج من أعماقه السجن أبدا، سيبقى نصفه خارج السجن والنصف الآخر مع إخوانه الذين تركهم لأقدارهم في السجن، أنّى له أن تكون الفرحة أو السعادة كاملتين، وكأنه في هذه الدنيا لا تكتمل وقد يكون اكتمالها بهدم السجون وتحرير من فيها وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بزوال الاحتلال.

مشكلة كريم الأولى هي الاحتلال ومشكلته الباقية هي أيضا أنه ما بقي الاحتلال فلن يعود للحياة صفوها، وما دام هناك من يسيطر على مفاصل حياتنا بل وعلى كلّ تفاصيلها. سيرى كريم بعد عودته إلى بلده في فلسطين المحتلة عام ثمانية وأربعين الحجم الهائل من العمران الذي أقامه الاحتلال، سيرى المستوطنات التي تركها صغيرة وقد أضحت مدنًا كبيرة، سيرى الشوارع الكبيرة والأسواق الضخمة، سيرى انتفاش الباطل وكم تعاظمت فاحشة الاحتلال بعد مرور كلّ هذه السنوات، كريم في جسمه مضاد للإحباط قوي جدا، في حبسته الطويلة درس التاريخ ودرس مآلات الظالمين، وعلم علم اليقين أن الباطل لا يدوم أبدا.

غدًا تتبقى لكريم تسعة عشرون يومًا.