التراشق الإعلامي بين الأحزاب الإسرائيلية لا يعكس تنافساً حزبياً على صوت الناخب، فالناخب قد أدلى بصوته، وأعلن انتماءه إلى أحزاب اليمين المتطرف. التراشق الإعلامي بين الأحزاب الإسرائيلية يعكس عميق شرخٍ داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، الذي كشف عن وجود معسكرين غير متجانسين داخل دولة الكيان، معسكر تقوده الصهيونية الدينية، وله الغلبة، وهو في تصاعد، لأنه المعسكر الذي يستدعي التراث العقائدي، والأصول اليهودية، معسكر يتمسك بالتوراة والتلمود صدقاً أو دجلاً، ولكنه استطاع أن يبيع الوهم التوراتي إلى ملايين اليهود، الذين يؤمنون بمعركة "هار مجدون"، وبناء "الهيكل"، وتجمع "أشتات اليهود" فوق هذه الأرض.
المعسكر الثاني الذي يتضاءل وينكمش مؤيدوه في هذه المرحلة، هو معسكر الصهيونية العلمانية، هذا المعسكر الذي أسس دولة الكيان الصهيوني، ومثل نموذجاً متقدماً أمام الغرب بادعاء "الديمقراطية والعلمانية، والانفتاح الإنساني على المجتمعات، وإقامة التجمعات الزراعية والصناعية، وتواصله مع الحضارة الغربية".
إنه الانقسام الرأسي بين مجتمعين مختلفين في النظرة إلى الحياة، وفي قراءة الواقع، ولكنهما متفقان فيما بينهما أيديولوجياً على مزاعم أن أرض فلسطين "حق تاريخي" لليهود، وأن هذه الدولة يهودية الهوية، ولا حقوق سياسية للعرب، ولا تقرير مصير، ولا تقسيم لهذه الأرض، وأن حدود الدولة أبعد من أرض فلسطين.
وحتى اللحظة فإن ظاهر الانقسام بين المجتمعين يقوم على خلافات حزبية، ومواقف سياسية تتعلق بالأمن والاستيطان، ولكن حقيقة الانقسام أبعد من ذلك، فالانقسام مرتبط بنمط الحياة، وبمجموعة القوانين العقائدية التي ستنعكس على مجمل حياة العلمانيين، ومدى التزامهم بالتعاليم الدينية، وإمكانية الانتقال بالدولة كلها من دولة علمانية إلى دولة دينية متعصبة، يحاربها الشرق والغرب، لذلك جاءت تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين العلمانيين أقرب إلى التحريض على التمرد، والثورة ضد أحزاب الصهيونية الدينية التي فازت بالانتخابات الأخيرة.
لقد وصل التحدي برئيس الأركان السابق غادي أيزنكوت، وعضو الكنيست الحالي أن دعا الإسرائيليين إلى مظاهرات مليونية، لإسقاط الحكومة التي لم تُشكل بعد، لأنها حكومة تختزن في تركيبتها مستويات عالية من الكراهية، حتى لليهودي الذي لا يؤمن بفكرتهم وقناعتهم، وهذا الذي يخيف العلمانيين، وهم يبصرون انهيار الأسس التي قام عليها المشروع الصهيوني، وخروج الأمر عن تباين الآراء وتعارضها، إلى انزياح المجتمع برمته نحو معسكر اليمين المتطرف الراديكالي، الذي يردد: من ليس معنا فهو ضدنا، ومن يخالفنا الرأي فقد خالف العقيدة، ودخل في معسكر الأعداء.
ضمن هذه المعادلة المرعبة لكل العلمانيين في دولة الكيان الصهيوني، جاء تحريض رئيس الوزراء الحالي يائير لابيد لضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده بالتمرد على قرارات الحكومة القادمة، وعدم الاستجابة لقرارات رؤساء السلطات المحلية، هذه التصريحات أغضبت نتنياهو وقادة معسكر اليمين، وعدوها تحريضاً على التمرد العلني على قرارات "الدولة".
فهل ستشهد دولة الكيان مزيداً من الانقسام بين اليهود المتطرفين واليهود الأكثر تطرفاً؟ هذا ما وثقته لنا كتب التاريخ اليهودي، وهي تؤكد أن بأسهم بينهم شديد.