في الوضع الطبيعي لا يجوز أن تنشغل الأوساط السياسية والدبلوماسية لدولة ما بتناول قضية سياسية ما، إلا إذا كانت هذه الدولة هي الكيان الإسرائيلي المحتل، الذي يعاني، وسيبقى يعاني، أزمة شرعية وجوده، لأنه كيان إحلالي قام على أنقاض فلسطين المحتلة، واستقدم مستوطنيه من أقاصي الدنيا، وطرد ورحّل أصحاب الأرض الأصليين.
يدور الحديث عن فيلم "فرحة" الأردني الذي بثته منصة "نيتفليكس" قبل يومين، ويتناول النكبة الفلسطينية 1948، ويصور جنود الاحتلال الإسرائيلي أنهم قتلة مصاصو دماء، وهم كذلك، والتاريخ والحاضر يشهدان عليهم، لكن ما استفز الاحتلال أن يبث هذا الفيلم الذي حظي برصد كبير تزامن مع "الزفّة" المهينة التي واجهها الإسرائيليون في مونديال قطر.
يزعم الإسرائيليون المحتجون على فيلم "فرحة" أنه يتغذى في كراهيته للاحتلال على ما تبثه شبكات التواصل الاجتماعي من مقاطع معادية، رغم أن الحديث يدور عن وقائع دامية شهدتها النكبة، واعترف بها قطاع عريض من المجرمين الإسرائيليين، ووثقها مؤرخون يهود، ولم يعد بالإمكان إنكارها، أو الاختباء خلف أصابعهم، وادعاء عدم حدوثها من الأساس.
الرد الإسرائيلي الفوري على فيلم "فرحة" تمثل بمطالبة "نيتفليكس" بعدم بثه، لأنه بزعمهم سيمنح المحرضين على الاحتلال، والكارهين له، منصة جديدة لتشويهه أكثر، مع أنه ليس بحاجة لمزيد من الأفلام للقيام بهذه المهمة، فآخر مشهد إعدام نفذه جندي قاتل في بلدة حوارة ضد الشهيد عمار مفلح واقعة حية، وعلى الهواء مباشرة لهذا القتل الدامي.
الضجة الإسرائيلية المفتعلة ضد فيلم "فرحة" يعيد للأذهان أوجه القلق عقب تنامي ظاهرة عزلها في العديد من المجالات والقطاعات المختلفة، ولا سيما الفن والسينما والثقافة، خاصة إلغاء العديد من الممثلين العالميين مشاركاتهم في مهرجانات فنية شهدتها دولة الاحتلال لأسباب سياسية، ما اعتبر في حينه انتصارا لمقاطعته، فيما وقف العشرات من الممثلين العالميين خلال واحد من مهرجانات "كان" دقيقة صمت إحياء لذكرى الشهداء الفلسطينيين في قطاع غزة الذين قتلوا بنيران جيش الاحتلال.
في الوقت ذاته، لا يُخفي الاحتلال خيبة أمله من تزايد الدعوات لمنع إقامة المهرجانات الفنية والفعاليات الثقافية العالمية لديه، ما شكل نقطة تحول في قدرة الفلسطينيين على إجبار فنانين عالميين على عدم المشاركة بهذه الأحداث، بل إن نجاحهم الأكبر، وفق الاعتقاد الإسرائيلي، أنهم حولوا المشاركة في فعاليات فنية داخل دولة الاحتلال من عدمها إلى سؤال سياسي، ولذلك يعمد الكثير من الفنانين على مستوى العالم لعدم الدخول في هذا الإشكال المتعب، ويهربون من استحقاقاته وتفسيراته المركبة بالامتناع عن إيجاد أي صلة لهم مع الاحتلال من الأساس كسبا للراحة، وعدم التسبب بأي إشكالات لهم.