مجددًا عادت المقاومة الفلسطينية لتوجه ضربات نوعية للاحتلال، لكن هذه المرة عبر استخدام (المتفجرات) والتحكم فيها مِن بُعد في قلب القدس المحتلة "بعملية مزدوجة" استُخدِمت فيها عبوتان فُجِّرتا في محطات الباصات المركزية، الأمر الذي أوقع عددًا من القتلى واإاصابات، إذ أعلن العدو جزءًا من الخسائر وتكتم على الجزء الآخر خشية من إثارة الجبهة الداخلية، وخوفًا من أن يؤدي ذلك إلى رفع معنويات الفلسطينيين ودفع مزيد من الخلايا لتوجيه هجمات مماثلة، وتخفيفًا عن المستوى السياسي والأمني الصهيوني الذي يتعرض لحالة لوم وانتقاد شديدة طوال المرحلة الماضية نتيجة الإخفاق في مواجهة العمليات والفشل الذريع في وضع حلول مناسبة لاستعادة الردع وفرض الأمن.
صحيح أن هذه العملية أوقعت عددًا من الخسائر في صفوف الجنود والمستوطنين وهذا مهم، لكن الأهم هو "نوعية العملية" ودقتها ونجاح المنفذين في الوصول إلى الأهداف بكل سهولة، والتمكن من زرع العبوات ومغادرة المكان دون اكتشاف أمرهم، واختيار الوقت المناسب لتفجير العبوات، وهذا ما أصاب العدو بالجنون، إذ إنه يعيش ذروة استعداده ويرفع حالة التأهب إلى أعلى مستوى ويضع عشرات الحواجز والموانع العسكرية ويفعل عشرات منظومات المراقبة، إلا أنه لم يستطِع تلقي أي إنذارات بخصوص عملية التفجير ولم يفلح في تأمين هذه المناطق بالشكل الأمثل، وأكثر من ذلك في أنه لم يفلح في معرفة هوية المنفذين أو الجهة التي تقف خلفهم، ليس هذا فحسب، بل عجزه عن معرفة الأماكن التي تصنع فيها هذه العبوات التي جهزت لهذه العملية من إحدى خلايا المقاومة.
وهذا بحد ذاته تطور غير مسبوق يبين أن المقاومة أدخلت المواجهة في "مرحلة مختلفة وجديدة" من تاريخ الصراع بعد أن توقفت عمليات التفجير منذ سنوات، الأمر الذي أشعر العدو بحالة من الرعب بعد عودة (الذكريات المؤلمة) التي غرستها المقاومة في عقل جنوده ومستوطنيه حين كانت تستهدف مختلف الأماكن داخل الكيان بعمليات تفجير في المطاعم والمتاجر والمواقع والمحطات وغيرها من الأماكن الحيوية، وتوقع أعدادًا كبيرة من القتلى والجرحى، في أكبر تحدٍّ فرضته المقاومة واستنزفت فيه الاحتلال بكل أذرعه، وجعلته يستنجد بل يستغيث بكل الأطراف لوقف هذا النوع من العمليات، بعد أن انهارت جبهته الداخلية وتهشمت منظومته الأمنية ومرغت كرامته في التراب.
ها هي اليوم تسجل المقاومة عددًا من النقاط لمصلحتها وهي تقول للعدو من خلال العملية إن المساس بالقدس والأقصى وبقية الأرض الفلسطينية لن يمر مرور الكرام، وإن العدوان والتصعيد المستمر له ثمن غير متوقع، وإن رفع وتيرة الجرائم بحق الفلسطينيين فرض إدخال أدوات ووسائل جديدة وأكثر فاعلية في المواجهة، وإن تهديدات الحكومة الصهيونية الجديدة (الأكثر تطرفًا) لا يمكن أن تردع المقاومة أو أن تخيفها، بل ستكون سببًا في تصعيد المواجهة وتكثيف العمل الفدائي، وإن أي محاولات لفرض واقع جديد على الفلسطينيين تحديدًا في القدس والأقصى سيؤدي حتمًا لعودة هذا النوع من العمليات ولكن بصورة أكبر وأشد قوة، فإن كانت اليوم العبوات تحمل أوزانًا متواضعة فإنها غدًا ربما تحمل كميات أكبر من المتفجرات وتؤدي لإيقاع عدد أكبر من القتلى والجرحى، ليس هذا فحسب بل ربما يتم اختيار أهداف أكثر خطورة وحساسية.
العدو اليوم في وضع لا يحسد عليه ويعاني حالة ارتباك غير مسبوقة على خلفية هذه العملية ويحاول ترميم صورته واستعادة الردع وطمأنة مستوطنيه بعد أن فرضت عملية التفجير المزدوجة الرعب ونشرت الخوف داخل الكيان وألقت بظلالها الكارثية على جبهته الداخلية، وقد ظهر ذلك من خلال ردود الأفعال من مستوطنيه الذين أرسلوا عشرات الإنذارات والرسائل والاتصالات حول وجود أجسام مشبوهة، وهذا يؤكد أن هؤلاء يعيشون حالة رعب حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فضلًا عن أن كثيرين منهم يطلبون الدعم النفسي وآخرين يخشون الصعود في الحافلات أو التجوال في المرافق العامة، لاعتقادهم بأن عمليات تفجير أخرى يمكن أن تقع قريبًا، وهذا بحد ذاته "نصر إضافي للمقاومة" التي اختارت التوقيت والمكان والأدوات بعناية كي تهز أركان العدو وهو على أعتاب تشكيل حكومة تستعرض في برنامجها وأهدافها عنوانًا عريضًا وهو فرض الأمن وردع المقاومة.