إن الحكومة الإسرائيلية بموجب اتفاقية أوسلو في عام 1993م مع منظمة التحرير الفلسطينية قلّصت من صلاحيات الإدارة المدنية الإسرائيلية، التي شكلت في عام 1981م، بقرار من الحكومة الإسرائيلية برئاسة مناحيم بيغن، التي كان أول قراراتها في حينه تشكيل روابط القرى الفلسطينية قيادة بديلة لمنظمة التحرير، قبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982م، والقضاء عسكريًّا على منظمة التحرير، وإخراج مقاتليها وقادتها إلى عدة دول عربية، لكن بموجب اتفاقية أوسلو نقلت عشرات الصلاحيات المدنية منها إلى السلطة الفلسطينية على المناطق المصنفة (أ) و(ب)، التي تضم معظم المناطق الفلسطينية المأهولة بالسكان، وتشكل ثلث مساحة أراضي الضفة الغربية فقط، لكن الحكومة الإسرائيلية كانت قد أصرت على الاحتفاظ بكل الصلاحيات الأمنية والمدنية في المنطقة التي صنفتها "أوسلو" بالمنطقة (ج)، وتشكل نحو ثلثي مساحة الضفة الغربية، ولا تضم سوى عشرات الألوف من الفلسطينيين، فقلصت الحكومة الإسرائيلية في حينه عدد العاملين الإسرائيليين في الإدارة المدنية، بعد نقل الصلاحيات المدنية إلى السلطة الفلسطينية، على الحد الأقصى من المواطنين الفلسطينيين، في حين استمرت سيطرة الإدارة المدنية الإسرائيلية بشكل كامل على الحد الأقصى من الجغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية، إذ كان مفترضًا إنهاء الإدارة المدنية الإسرائيلية وحلها بعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية أوسلو، وذلك بنقل كل الصلاحيات المدنية إلى السلطة الفلسطينية على كامل الأراضي المحتلة، ليتبين فيما بعد أن الحكومة الإسرائيلية أرادت من توقيع اتفاقية أوسلو، وما شملته من تصنيفاتٍ متعدّدة لمناطق الضفة الغربية التخلص من أعباء الحكم وإدارة الشؤون الفلسطينية المحلية، بنقلها إلى السلطة الفلسطينية، وأن تظهر أمام العالم كأنها أنهت احتلالها العسكري الواقع على أغلبية الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه لتتفرغ بالكامل للسيطرة على الجزء الأكبر من أراضي الضفة الغربية، والمسماة مناطق (ج)، وذلك بمشروع منظم وممنهج لاجتثاث الوجود الفلسطيني في تلك المناطق، بمنع المواطنين الفلسطينيين من العمل في أراضيهم وفلاحتها، أو استثمارها في شتى المشاريع الزراعية أو الاقتصادية الأخرى، وعدم السماح لهم بالإقامة فيها، ومنع إصدار رخص للبناء فيها، وهدم آلاف المنازل والآبار والمنشآت الزراعية، التي كانت مقامةً حتى قبل الاحتلال العسكري الإسرائيلي في 1967م.
وفي موازاة تلك الإجراءات الاحتلالية الاجتثاثية زرعت الحكومة الإسرائيلية وإدارتها المدنية معظم تلك المنطقة بعشرات المستوطنات والمستعمرات، التي أصبح عدد مستوطنيها يزيد على سبعمائة ألف مستوطن، الأمر الذي أصبح يشكل واقعًا جغرافيًّا وديمغرافيًّا من الصعب تغييره، يسيطر فيه المستوطنون اليهود على معظم أراضي الضفة الغربية، التي تحوي أكبر الموارد الطبيعية من أراض زراعية ومياه جوفية وصخور، وبشكل متصل ومتواصل جغرافيًّا وديمغرافيًّا مع أراضي فلسطين المحتلة عام 1948م، وذلك بعد إلغاء حدود الخط الأخضر، التي كان يتطلع الفلسطينيون إليها لتكون حدود دولتهم المستقلة مستقبلًا، في حين حشر ملايين الفلسطينيين في مدنهم وبلداتهم وقراهم ومخيماتهم، دون أية موارد طبيعية، تضمن الحياة الكريمة، وتلبية احتياجات الزيادة السكانية الطبيعية، في وضع شبيه تمامًا بالسجون الكبيرة، أو (الكانتونات)، والأقفاص المتناثرة وغير المتصلة معًا في الضفة الغربية.
قبل أيام بشكل ينهي تمامًا ما تبقى حتى من الشق المدني في اتفاقية أوسلو أعلنت الحكومة الإسرائيلية نيتها مضاعفة أعداد العاملين الإسرائيليين في الإدارة المدنية في الضفة الغربية، بحجة تحسين الخدمات الحياتية للمجتمع الفلسطيني، وللمستوطنين اليهود أيضًا في الضفة الغربية، وكأن هؤلاء أصبحوا جزءًا من الضفة الغربية، ويعني ذلك البدء بالإنهاء التدريجي لما تبقى من صلاحيات مدنية للسلطة الفلسطينية في الضفة، وعودة الإدارة المدنية الإسرائيلية لتكون الحكومة الفعلية والوحيدة في الضفة الغربية، وكان قد سبق ذلك تعميق التواصل بين ضباط الإدارة المدنية الإسرائيلية والمواطنين الفلسطينيين عبر صفحات عديدة للإدارة المدنية على مواقع التواصل الاجتماعي، (فيس بوك) و(تويتر) مثلًا، التي تتحدث مباشرة على مدار الساعة مع المواطنين الفلسطينيين، إضافة إلى لقاءات واتصالات أخرى، متجاوزة بذلك السلطة الفلسطينية ومؤسساتها ودوائرها الخدمية الأخرى، إذ تدير تلك الصفحات أطقمًا إسرائيلية متخصصة في كيفية مخاطبة الفلسطينيين، خصوصًا أن عشرات ألوف الفلسطينيين يتابعون هذه الصفحات، ويتفاعل كثيرون منهم معها، من الذين يعبرون عن رفضهم الاحتلال وأساليبه الناعمة، والذين يطرحون مشكلاتهم لحلها من الإدارة المدنية، بعد أن أقنعتهم منشورات الإدارة المدنية وكتاباتها أنها معنية بحل مشكلاتهم وتحسين حياتهم، وأن الكيان العبري وإدارته المدنية هما الجهة الوحيدة القادرة على ذلك، بعد إظهار السلطة الوطنية الفلسطينية ضعيفة، وغير قادرة على إيجاد الحلول الملائمة لمشكلاتهم الحياتية المختلفة.
وكان وزير الجيش الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية قد أعلن قبل شهور أنه بصدد تطوير العلاقة مع المجتمع الفلسطيني، دون أن يمر ذلك من طريق السلطة في الضفة، في إطار سياسة العصا والجزرة التي يتبناها، وبموجبها تستخدم العصا ضد السلطة، وضد الأطراف التي يصفها بمحرّضة وإرهابية، في حين يستخدم سياسة الجزرة مع الأطراف التي يصفها بمعتدلة، وخصوصًا بعض رجال الأعمال أصحاب المصالح الاقتصادية والشخصية.
أصبح واضحًا أن تطبيق المشروع الإسرائيلي عودة الإدارة المدنية الإسرائيلية للتحكّم في كل القضايا الحياتية للشعب الفلسطيني لا يعني نهاية دور السلطة الفلسطينية ووظائفها ومهامها فقط، لا بل هو عودة الأمور إلى وضع أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل توقيع اتفاقية أوسلو، من استيطان شامل، وعملية عزل لمدينة القدس وتهويدها وتفريغها من مواطنيها الفلسطينيين، وجلب مزيد من المستوطنين إلى شرقي القدس المحتلة، وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، الأمر الذي يفرض على القيادة الفلسطينية، والكل الفلسطيني أن ينظروا بقلق كبير إلى مستقبل الشعب والقضية والأرض، وبذلك عدم البقاء في مربع الانتظار، بل الانتقال إلى مربع الفعل، وقلب الطاولة، وخصوصًا في ظل الإدارة الأميركية الجديدة، برئاسة دونالد ترامب، التي تبنت رؤية اليمين الإسرائيلي بشكلٍ يتناقض حتى مع سياسات الإدارات الأميركية السابقة المنحازة إلى الكيان العبري.