زفَّت الأم لطفليها ساري (11 عامًا) ورنا (9 أعوام) خبر إفراج السلطة عن والدهما جهاد وهدان (40 عامًا)، لكن الطفل ورغم سعادته بالإفراج عن والده بعد خمسة أشهر من اعتقاله لم يبدِ فرحة كاملة فأصبح مدركًا للعبة: "يعني جيش الاحتلال حيعتقلوه!".
الطفل ومنذ إبصاره الحياة اعتقل الاحتلال والده ثماني سنوات، وأكملت السلطة المهمة، إذ لم تزد مدة مكوثه بينهم منذ عام 2013 عن عام ونصف مجتمعة، بعدما غيبته سجون الاحتلال ومعتقلات السلطة، وحرمت الطفلين من دفء وحنان والدهم.
اقرأ أيضاً: محمد دراغمة.. معتقل في "مسلخ أريحا" بلا تهم و"أمعاؤه الخاوية" خياره
أما طفلته رنا فاستقبلت الخبر بدموع صامتة وملامح باهتة أصابها اليأس، فلم يزد عمرها على شهرين لحظة اعتقال الاحتلال والدها لمدة ثلاثة أعوام ونصف في المرة الأولى، فلم تتعرف إليه بعد الإفراج عنه، وخلال محاولة الأب ترميم العلاقة بينه وبين طفلته، وبدأت تتعوده، غيبه الاحتلال للمرة الثانية لمدة أربعة أعوام ونصف، أفرج عنه في يوليو/ تموز 2021.
قبل الإفراج عنم عاصم، كما تروي زوجته لصحيفة "فلسطين" بدأت العائلة ترتب في "بيت العمر" لتستقر فيه، وتخرج من بيت الإيجار، وبعد مرور 11 شهرًا على تحرره من سجون الاحتلال، اعتقلته السلطة في 9 يونيو/ حزيران على خلفية ما يعرف بقضية "منجرة بيتونيا"، "فترة مرت علينا صعبة، توقف بناء المنزل، لم نعرف عنه شيئًا خلال أول ثلاثة أسابيع، لكننا سعدنا بالإفراج عنه ونتمنى أن تكون آخر الاعتقالات".
5 شهور
بصوت خافت أنهكه الاعتقال لخمسة أشهر والإضراب المتواصل عن الطعام لمدة خمسة وأربعين يومًا عن الطعام، يقص وهدان لصحيفة "فلسطين" عبر الهاتف وهو ما زال يتماثل للشفاء على سرير مشفى رام الله شريط رحلة "تعذيب" بدأت منذ اللحظة الأولى، قائلا: "اعتقلت خلال عملي بورشة كهرباء، واقتدتُ لمقر المخابرات برام الله".
"جرى اتهامي بما يعرف "بانفجار منجرة بيتونيا" وأنني سعيت لتفجير مقرات المخابرات والأجهزة الأمنية، فقلت لهم: لو كنت أسعى لذلك، لما شاهدتموني أتحرك بحرية في رام الله، ولن أذهب لعملي"، يضيف عاصم.
لم يقتنع جهاز المخابرات فنقل وهدان إلى المحاكم برام الله ومددوا اعتقاله 15 يومًا قبل نقله إلى أريحا، وجرى مساومته على عدم النقل لهناك مقابل الاعتراف بالتهمة الموجهة إليه، "رفضت لأنه ليس لي علاقة بما جرى وكل أيام أمضيتها في الاعتقال هي ظلم وافتراء"، قالها بنبرة غاضبة
أعصبت عيناه، طوال الطريق إلى أريحا، وعندما أزال أفراد الأمن العصبة لحظة وصوله سجن أريحا، استقبلوه عشرة أفراد لم يبخلوا في المباشرة في التعذيب منذ لحظة ترجله من السيارة.
يتحامل على نفسه وهو يستعيد مشاهد التعذيب: "هاجمني عشرة عناصر، ضربوني بالعصي، والأقدام، ثم طرحوني أرضًا وأكملوا الضرب والتعذيب، ثم شبحت وقيدوا يدي اللتين ووضعتا خلف ظهري".
أمضى وهدان 60 يومًا في زنزانة "عزل انفرادي" لا تزيد مساحتها عن مترين مربع، لم تكن مكانًا للراحة بل لاستمرار التعذيب، تتحرك مشاهد "أيام مرَّة" أمامه، وفي صوته قهر: "في الزنزانة لم يسمحوا لي بالراحة، أولاً لا يوجد فيها فرشة أو ملاءة، ولا دورة مياه، وعندما تطرق على الباب للذهاب للدورة، يسمعوك شتائم كثيرة، فاضطررت للتيمم للصلاة".
اقرأ أيضاً: أحمد هريش.. 47 يوما من الاعتقال السياسي والتعذيب في مسلخ أريحا
يردف بنفس النبرة المتألمة "كانوا يحققون معي أيضًا في الزنزانة، إما بالضرب المستمر، أو بطلب الوقوف على قدمي وعدم الجلوس ويستمر الأمر لمدة ليلة أو ليلتين، وفي حال لم أتحمل الوقوف، واستندت على الحائط يتم ضربي".
تنهد وأطلق زفرة ألم من صدره، يصف ما تعرض له "تعذبت عذابًا شديدًا"، مشيرًا إلى أنه كان يستيقظ في الليل على صوت شبح زميله أحمد هريش في الزنزانة الأخرى، وأنهم استمروا في تعذيبه أكثر من 100 يوم.
خطوة احتجاجية
ورغم أن وهدان أمضى ثمانية أعوام لدى الاحتلال، إلا أنه لم يرَ في سجون الاحتلال ما عاشه في معتقلات السلطة، مقرًا بأسى: "صحيح أن الاحتلال عذبني، لكن ليس بهذا القدر، والشكل، والأسلوب الذي واجهته في معتقلات السلطة، خاصة أنهم يفترض أن يكونوا أبناء بلدك".
بعد انتهاء فترة مكوثه بالزنازين، نقل إلى غرف السجن بأريحا، التي لم تكن أحسن حالاً: "وجدت السجن صغيرًا يتكون من ثلاث أو أربع غرف، وضعه سيء، لا يوجد مياه للاستحمام، لا تستطيع ممارسة الرياضة إن أردت، فضلاً عن الحرارة المرتفعة في أريحا".
عن قرار خوض الإضراب عن الطعام، قال: "كانت الخطوة احتجاجا على استمرار اعتقالنا، ونقلنا لسجن الشرطة بيتونيا والذي يضم معتقلين جنائيين، جعلنا نلتقي معًا ونتفق على خوض إضراب مفتوح عن الطعام".
لم تقل ظروف الحياة في سجن بيتونيا، صعوبة عن "مسلخ أريحا"، يعدد تلك المساوئ: "تخيل أنهم يضعون كاميرا تصوير فوق دورة المياه، لا يوجد مياه، المكان سيء جدًا".
خلال الإضراب في المعتقل، منعت إدارة مركز الشرطة الدواء عن اثنين من المعتقلين الستة، فامتنع البقية عن تناول الدواء في خطوة احتاج جماعية، وبعد أربعة أيام تم نقلهم لمستشفى رام الله، أكمل وهدان إضرابه لليوم 45 على التوالي قبل الإفراج عنه أول من أمس، وقبل انتزاع الإفراج ساءت حالته فلم يستطع الرؤية، وأصبح يرى الأشياء غير واضحة، يذهب لدورة المياه بواسطة كرسي متحرك".
يختم وهدان حديثه "اعتقلونا ظلما، واضربنا ضد الاعتقال السياسي ثم ضد تحويل قضيتنا إلى جنائية، حتى انتزعنا الإفراج ولو لم نضرب لمكثنا أكثر من عام في سجون الاحتلال".
والدته التي ترافقه بالمشفى، وتمكث بجواره تقول لصحيفة "فلسطين" عن غيابه: "كان البيت حزينا في غيابه، خاصة أننا كنا نتابع قضيته من خلال المحامي، وكانت الزيارات قليلة والمسافات بعيدة بين رام الله وأريحا، وحتى عندما جاء للمشفى كانوا يسمحون لي بزيارته لمدة دقيقتين، لا تكفي بأن أطل عليه وأعود، والآن الدنيا لم تسع فرحتي بالإفراج عنه".