الشعب الفلسطيني يعيش مرحلة تاريخية من مراحل القضية الفلسطينية، وهي المرحلة المفصلية لمواجهة الاحتلال بالمقاومة التي انطلقت من جديد في الضفة الغربية المحتلة منذ عدة أشهر متواصلة تزداد فيها البطولات يومًا بعد يوم رغم بطش الاحتلال وتعاون السلطة الفلسطينية معه للنيل من المقاومين، لكن هيهات ثم هيهات أن يخمد لهيبها، فالجماهير أصبحت تلتف حولها بكل شرائحها وأطيافها الفصائلية، على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم، لأنهم كفروا بسياسات الاحتلال والاستيطان ولم يؤمنوا بالتنسيق والتعاون الأمني المتبع في الضفة لصالح الاحتلال وضد الشعب الفلسطيني.
من جانب آخر أصيب مشروع المصالحة بانتكاسة جديدة، الذي تكفلت بإنجازه دولة الجزائر الشقيقة قبل أسبوع، وإنها على موعد لتطبيقه على أرض الواقع وتنتظر القمة العربية القادمة للابتهاج بهذا الإنجاز الذي ينسب للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لحرصه على جمع الشمل الفلسطيني.
قد يسأل سائل: لماذا لم يقابل هذا الإنجاز التاريخي بإنهاء الإنقسام الفلسطيني الداخلي المستمر لأكثر من خمسة عشر عامًا، بإعلان رسمي من رئيس السلطة محمود عباس على الأقل ترحيبًا بهذا الإنجاز الوطني وإظهار الرغبة الحقيقية للمصالحة؟
الإجابة على هذا التساؤل حددها عباس في طلقة استباقية أطلقها على المصالحة لوأدها قبل انعقاد القمة العربية، التي انطلقت في العاصمة الجزائرية، السبت الماضي، بدأت باجتماعات لوزراء الخارجية العرب تحضيرًا للقمة العربية المرتقبة في دورتها الـ31 المقرر عقدها يومي الأول والثاني من نوفمبر/تشرين الثاني في الجزائر، وهذا كان واضحًا في إصدار عباس يوم الجمعة الماضي مرسومًا يقضي بتشكيل مجلس أعلى للقضاء برئاسته، أسماه "المجلس الأعلى للهيئات والجهات القضائية"، وسيكون التمثيل فيه شخصيًّا، ويضم رئيس المحكمة الدستورية العليا، ورئيس مجلس القضاء الأعلى "رئيس محكمة النقض"، ورئيس المحكمة الإدارية العليا، ورئيس الهيئة القضائية لقوى الأمن، ورئيس مجلس القضاء الشرعي، ووزير العدل، والمستشار القانوني لرئيس الدولة، والنائب العام.
الغريب أن هؤلاء الأشخاص هم حقوقيون وهم أكثر الناس معرفة بالقانون والدستور الأساسي الفلسطيني، وأيضًا يعرفون أن هذه خطوة اعتداء من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، بمعنى أن الأمر يمسهم بالدرجة الأولى، فلماذا لا يقولون كلمة حق في وجه سلطان جائر؟ وأصبحوا كالعبيد في مناصبهم يتلقون الأوامر والقرارات من سيدهم الذي لا يفقه القانون، وينطبق عليهم قوله تعالى: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خوفهم من بطشه، أو حرصهم الشديد على اعتلاء المناصب، في حين ركل المقاومون المناصب والوظائف والرواتب وذهبوا ينضمون لصفوف المقاومة.
عباس أحكم قبضته على جميع السلطات، وأصبحت مرجعيتها له شخصيًا، بهدف تعزيز سلطته وتحصين نفسه ورعاية مصالحه، على اعتبار أن هذه السلطة بأكملها هي مملكة خاصة به، ويمكنه العبث بها وتطويعها كما يرى وكما يحلوا له.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا جاءت هذه الخطوة بعد فترة قريبة من حوارات الجزائر؟ الواضح أن عباس بات لا يلقي بالًا لأي جهد أو تحرك أو حوار وطني، أو أي شراكة وطنية فلسطينية، كما أنه يهمش وجود منظومة قضائية مستقلة في فلسطين، ويحرص على إبقاء الوضع الراهن كما هو، والتنسيق الأمني مع الاحتلال لا تراجع عنه، والهدف من هذا حرف الأنظار عما يحدث من غضب شعبي في الضفة.